قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 64 ) .

( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ) يوسف ( مِنْ قَبْلُ ) أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم؟ ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: ( حَافِظًا ) بالألف على التفسير، كما يقال: هو خيرٌ رجلا وقرأ الآخرون: ( حفظا ) بغير ألف على المصدر، يعني: خيركم حفظا، يقول: حفظه خير من حفظكم. ( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَـزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ( 65 ) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 66 ) .

( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ ) الذي حملوه من مصر، ( وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ ) ثمن الطعام، ( رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) أي: ماذا نبغي وأي شيء نطلب؟ وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم، وحثّوه على إرسال بنيامين معهم، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة، ( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) أيُّ شيء نطلب بالكلام، فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام، أَوْفَى لنا الكيل ورَدَّ علينا الثمن. أرادوا تطييب نفس أبيهم، ( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم. يقال: مارَ أهله يَمِيْر مَيْرا: إذا حمل إليهم الطعام من بلد [ إلى بلد آخر ] . ومثله: امتار يمتار امتيارا. ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا ) بنيامين، أي: مما تخاف عليه. ( وَنَـزْدَادُ ) على أحمالنا، ( كَيْلَ بَعِيرٍ ) أي: حمل بعير يكال لنا من أجله، لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير، ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) [ أي: ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا. وقيل: معناه نـزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ] لا مؤنة فيه ولا مشقة.

وقال مجاهد: البعير ها هنا هو الحمار. كيل بعير، أي: حمل حمار، وهي لغة، يقال للحمار: بعير. وهم كانوا أصحاب حُمُرٍ، والأول أصح أنه البعير المعروف.

( قال ) لهم يعقوب، ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ ) تعطوني ( مَوْثِقًا ) ميثاقا وعهدا، ( مِنَ اللَّهِ ) والعهد الموثَّق: المؤكّد بالقسم. وقيل: هو المؤكد [ بإشهاد الله ] على نفسه ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) وأدخل اللام فيه لأن معنى الكلام اليمين، ( إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) قال مجاهد إلا أن تهلكوا جميعا.

وقال قتادة: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.

وفي القصة: أن الإخوة ضاق الأمر عليهم وجهدوا أشد الجهد، فلم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم.

( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أعطوه عهودهم ، ( قَال ) يعني: يعقوب ( اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) شاهد. وقيل: حافظ. قال كعب: لما قال يعقوب فالله خير حافظا، قال الله عز وجل: وعزتي لأرُدَّنَّ عليك كليهما بعدما توكَّلْت عليَّ.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 67 ) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 68 ) .

( وَقَال ) لهم يعقوب لما أرادوا الخروج من عنده، ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) وذلك أنه خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامةٍ، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حق ، وجاء في الأثر: « إنّ العَين تُدخلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ » .

وعن إبراهيم النخعي: أنه قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق. والأول أصح.

ثم قال: ( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) معناه: إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين، فإن المقدور كائن والحذر لا ينفع من القدر، ( إِنِ الْحُكْمُ ) ما الحكم، ( إِلا لِلَّهِ ) هذا تفويض يعقوب أموره إلى الله، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) اعتمدت، ( وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ) أي: من الأبواب المتفرقة. وقيل: كانت المدينة مدينة الفرماء ولها أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها، ( مَا كَانَ يُغْنِي ) يدفع ( عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) صَدَق اللهُ تعالى يعقوبَ فيما قال، ( إِلا حَاجَةً ) مراداً، ( فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه، ( وَإِنَّهُ ) يعني: يعقوب عليه السلام، ( لَذُو عِلْمٍ ) يعني: كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، ( لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) أي: لتعليمنا إياه. وقيل: إنه لعامل بما علم.

قال سفيان: من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما. وقيل: وإنه لذو حفظ لما علَّمناه.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ما يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 69 ) .

قوله عز وجل: ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ) قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، ثم أنـزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، فجعل يُواكله فلما كان الليل أمر لهم [ بمثل ذلك ] وقال: لينم كل أخوين منكم على مثال، فبقى بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام معي على فراشي، فنام معه، فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح، وجعل روبين يقول: ما رأينا مثل هذا، فلما أصبح، قال لهم: إني أرى هذا الرجل ليس معه ثان فسأضمه إليَّ فيكون منـزله معي، ثم أنـزلهم منـزلا وأجرى عليهم الطعام، وأنـزل أخاه لأمه معه، فذلك قوله تعالى:

( آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) أي: ضمَّ إليه أخاه فلما خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنه لما ولد هلكت أمه. قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى، فقال: فهل لك من ولد؟ قال: نعم عشرة بنين، [ قال: فهل لك من أخ لأمك، قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف ] أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، فقال بنيامين: ومَنْ يجد أخاً مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عند ذلك وقام إليه وعانقه ، وقال له: ( قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: لا تحزن، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، ولا تعَلّمْهم شيئا مما أعلمتك، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا، ولبنيامين بعيرا باسمه، ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل بنيامين.

قال السدي: جعلت السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.

وقال كعب: لما قال له يوسف إني أنا أخوك، قال بنيامين: أنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد ، قال: لا أبالي، فافعل، ما بدا لك، فإني لا أفارقكَ، قال: فإني أدسُّ صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة، ليهيأ لي ردّك بعد تسريحك. قال: فافعل فذلك قوله تعالى: