فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( 70 ) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ( 71 ) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ( 72 ) .

( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وهي المشربة التي كان الملك يشرب منها.

قال ابن عباس: كانت من زبرجد.

وقال ابن إسحاق: كانت من فضة. وقيل: من ذهب، وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها.

والسقاية والصواع واحد، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منـزلا.

وقيل: حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم.

( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ) نادى منادٍ، ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ ) وهي القافلة التي فيها الأحمال. قال مجاهد: كانت العير حميرا. وقال الفراء: كانوا أصحاب إبل. ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) قفوا. قيل: قالوه من غير أمر يوسف. وقيل: قالوه بأمره، وكان هفوة منه. وقيل: قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منـزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم. فذلك قوله عز وجل:

( قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ) عطفوا على المؤذن وأصحابه، ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ما الذي ضلّ عنكم. والفقدان: ضدّ الوجد.

( قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير ) من الطعام، ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) كفيل، يقوله المؤذن.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ( 73 ) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ( 74 ) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 75 ) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 ) .

( قَالُوا ) يعني: إخوة يوسف، ( تَاللَّه ) أي: والله، وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في اليمين دون سائر أسماء الله تعالى. ( لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ ) لنسرق في أرض مصر.

فإن قيل: كيف قالوا لقد علمتم؟ ومن أين علموا ذلك؟.

قيل: قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نَرْزَأ أحدا شيئا فاسألوا عنا مَنْ مررنا به: هل ضررنا أحدا؟

وقيل: لأنهم ردوا البضاعة التي جعلت في رحالهم ،قالوا: فلو كنا سارقين ما رددناها.

وقيل: قالوا ذلك لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كيلا تتناول شيئا من حروث الناس.

( وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) .

( قَالُوا ) يعني المنادي وأصحابه ( فَمَا جَزَاؤُهُ ) أي: جزاء السارق، ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) في قولكم « وما كنا سارقين » .

( قَالُوا ) [ يعني: إخوة يوسف ] ، ( جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) أي: فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.

( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير.

فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من تفتيش أمتعتكم.

فأخذ في تفتيشها. ورُوي أنه ردّهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.

( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ) لإزالة التهمة، ( قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ) فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال: ما أظن هذا أخذه، فقال إخوته: والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه. فذلك قوله تعالى:

( ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) وإنما أَنَّث الكناية في قوله « ثم استخرجها » والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: « وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ » ؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية.

وقيل: الصواع يذكر ويؤنث. فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين وقالوا: ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل؟ ما يزال لنا منكم البلاء، متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذوا بنيامين رقيقا .

وقيل: إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق. ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف: « فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا » ، فكدنا ليوسف في أمرهم.

والكيد من الخلق: الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق. وقيل: كدنا: ألهمنا. وقيل: دبَّرنا. وقيل: أردنا. ومعناه: صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه، وحال بينه وبين إخوته.

( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ) فيضمه إلى نفسه، ( فِي دِينِ الْمَلِكِ ) أي: في حكمه. قاله قتادة. وقال ابن عباس: في سلطانه. ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) يعني: إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى.

( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته. وقرأ يعقوب: « يرفع » و « يشاء » بالياء فيهما [ وإضافة درجات إلى ( مَنْ ) في هذه السورة. والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله: ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي: يرفع الله درجات من يشاء. وقرأ الباقون بالنون فيهما إلا أن الكوفيين قرؤوا: « درجات » بالتنوين، ومَنْ سواهم بالإضافة، أي: نرفع به نحن، والرافع أيضا هو الله تعالى ] .

( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قال ابن عباس: فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى. فالله تعالى فوق كل عالم.

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 ) .

( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يريدون أخاً له من أمه، يعني: يوسف. واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف عليه السلام، فقال سعيد بن جبير وقتادة: كان لجده، أبي أمه، صنم يعبده، فأخذه سرّاً، أو كسره وألقاه في الطريق لئلا يعبد .

وقال مجاهد: إن يوسف جاءه سائل يوما، فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل. وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. وقال وهب: كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء .

وذكر محمد بن إسحاق: أن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق، بعد موت أمه راحيل، فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه، فأتاها وقال: يا أختاه سلِّمي إليَّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت: لا والله، فقال: والله ما أنا بتاركه، فقالت: دعه عندي أياما أنظر إليه لعلّ ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة لإسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر، فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد إسحاق، فحزمت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لَسَلَمٌ لي، فقال يعقوب: إن كان فعل ذلك فهو سَلَمٌ لك ، فأمسكته حتى ماتت، فذلك الذي قال إخوة يوسف: ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

( فَأَسَرَّهَا ) أضمرها ( يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ) وإنما أتت الكناية لأنه عني بها الكلمة، وهي قوله: ( قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ) [ ذكرها سرا في نفسه ولم يصرح بها، يريد أنتم شر مكانا ] أي: منـزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف، لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقية، وخيانتكم حقيقة، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) تقولون.

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 78 ) .

( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) وفي القصة أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها، وكان مع هذا إذا مسَّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه.

وقيل: كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب.

وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ فقالوا عشرة، فقال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه. وروي: خذ بيده فأتني به، فذهب الغلام فمسّه فسكن غضبه. فقال روبيل: إن ها هنا لَبَزْرًا من بَزْر يعقوب، فقال يوسف: مَنْ يعقوب؟.

ورُوي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه، فوقع على الأرض وقال: أنتم معشر العبرانيين تظنون أنْ لا أحدَ أشدّ منكم؟

فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا، وقالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً يحبه، ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) بدلا منه، ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) في أفعالك . وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة. وقيل: يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين.