سورة الرعد

 

مكية إلا قوله: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا , وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا [ وهي ثلاث وأربعون آية ] .

بسم الله الرحمن الرحيم

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 1 ) .

( المر ) قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) يعني: تلك الأخبار التي قصصتها [ عليك ] آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة, ( وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ) يعني: وهذا القرآن الذي أنـزل إليك, ( مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) أي: هو الحق فاعتصم به. فيكون محل « الذي » رفعا على الابتداء, والحق خبره.

وقيل: محلُّه خفض, يعني: تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنـزل إليك, ثم ابتدأ: « الحق » , يعني: ذلك الحق .

وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن, ومعناه: هذه آيات الكتاب, يعني القرآن, ثم قال: وهذا القرآن الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) قال مقاتل: نـزلت في مشركي مكة حين قالوا: إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه فردّ قولهم ثم بين دلائل ربوبيته, فقال عَزَّ من قائل:

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( 2 ) .

( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) يعني: السَّواري, واحدها عمود, مثل: أديم وأَدَم, وعُمُد أيضا جمعه, مثل: رسول ورُسل.

ومعناه نفي العمد أصلا وهو الأصح, يعني: ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها.

قال إياس بن معاوية: السماء مقبَّبة على الأرض مثل القبة

وقيل: « ترونها » راجعة إلى العمد, [ معناه ] لها عمد ولكن لا ترونها

وزعم: أن عمدها جبل قاف, وهو محيط بالدنيا, والسماء عليه مثل القبة .

( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) علا [ عليه ] ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران, ( كُلٌّ يَجْرِي ) أي: يجريان على ما يريد الله عز وجل, ( لأجَلٍ مُسَمًّى ) أي: إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا. [ وقال ابن عباس ] : أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها, ( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) يقضيه وحده, ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ ) يبين الدلالات, ( لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) لكي توقنوا بوعده وتصدقوه.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 3 ) .

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ ) بسطها, ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ) جبالا ثابتة, واحدتها راسية, قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض ( وَأَنْهَارًا ) وجعل فيها أنهارا. ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي: [ صنفين اثنين ] أحمر وأصفر, وحلوا وحامضا, ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) أي: يلبس النهار بظلمة الليل, ويلبس الليل بضوء النهار, ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيستدلون. والتفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 4 ) .

( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ) متقاربات يقرب بعضها من بعض, وهي مختلفة: هذه طيبة تنبت, وهذه سبخة لا تنبت, وهذه قليلة الريع, وهذه كثيرة الريع, ( وَجَنَّاتٌ ) بساتين, ( مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ ) رفعها كلها ابن كثير, وأبو عمرو, وحفص, ويعقوب, عطفا على الجنات, وجرَّها الآخرون نسقاً على الأعناب. والصنوان: جمع صنو, وهو النخلات يجمعهن أصل واحد.

( وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) هي النخلة المنفردة بأصلها. وقال أهل التفسير صنوان: مجتمع, وغير صنوان: متفرق. نظيره من الكلام: قنوان جمع قنو. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: « عمّ الرجل صنو أبيه » . ولا فرق في الصنوان والقنوان بين التثنية والجمع إلا في الإعراب, وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة, وفي الجمع منونة.

( يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب « يُسقى » بالياء أي يسقى ذلك كله بماء واحد, وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: ( وَجَنَّاتٌ ) ولقوله تعالى من بعد « بعضها على بعض » , ولم يقل بعضه. والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نامٍٍ.

( وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ) في الثمر والطعم. قرأ حمزة والكسائي « ويفضل » بالياء, لقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ ( الرعد - 2 ) .

وقرأ الآخرون بالنون على معنى: ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل, وجاء في الحديث [ في قوله ] : « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » , قال: « الفارسي, والدَّقَلُ, والحلو, والحامض » .

قال مجاهد: كمثل بني آدم, صالحهم وخبيثهم, وأبوهم واحد .

قال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم, ويقول: كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن عز وجل, فسطحها, فصارت قطعاً متجاورةً, فينـزل عليها المطر من السماء, فتخرج هذه زهرتها, وشجرها وثمرها ونباتها, وتخرج هذه سَبَخَها وملحها وخبيثها وكل يُسقَى بماء واحد, كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينـزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع, وتقسو قلوب فتلهو.

قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان, قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ( الإسراء - 82 ) .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 5 ) .

( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة, والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعناه: إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق [ من الله عز وجل ] فعجب أمرهم.

وكان المشركون ينكرون البعث, مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى, وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء, فهذا موضع العجب.

وقيل: معناه: وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قدْ رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم, أي: فتعجب أيضا من قولهم: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ) بعد الموت, ( أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي: نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت.

قرأ نافع والكسائي ويعقوب « أئذا » مستفهما « إنّا » بتركه, على الخبر, ضده: أبو جعفر وابن عامر. وكذلك في « سبحان » في موضعين, والمؤمنون, والم السجدة, وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي الصافات في موضعين هكذا إلا أن أبا جعفر يوافق نافعاً في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( الصافات - 53 ) .

قال الله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) يوم القيامة ( وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .