إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وما ترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.

قوله تعالى: ( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ( 62- الفرقان ) قال عطاء: أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان. والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع. والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( 37- يس ) .

( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى: في الواحد والتذكير إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 140- الصافات ) وقال في الجمع والتأنيث حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ( 22- يونس ) .

( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء ( بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ) يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب ( وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ ) يعني المطر قيل: أراد بالسماء السحاب، يخلق الله الماء في السحاب ثم من السحاب ينـزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينـزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينـزل إلى الأرض ( فَأَحْيَا بِهِ ) أي بالماء ( الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) أي بعد يبوستها وجدوبتها ( وَبَثَّ فِيهَا ) أي فرق فيها ( مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ )

قرأ حمزة والكسائي الريح بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41- الذاريات ) اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ( 46- الروم ) اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث، وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء .

وقيل: تصريفها أنها تارة تكون لينا وتارة تكون عاصفا وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحا لأنها تريح النفوس قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب. فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ ) أي الغيم المذلل سمي سحابا لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر ( بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا قال وهب بن منبه: ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( 165 )

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ) أي أصناما يعبدونها ( يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني قال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( 65- العنكبوت ) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء .

قال سعيد بن جبير: إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار: « إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم » فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) وقيل إنما قال ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( 54- المائدة ) .

قوله تعالى: ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ولو ترى بالتاء وقرأ الآخرون بالياء وجواب لو هاهنا محذوف ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ( الرعد:31 ) يعني لكان هذا القرآن فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم في شدة العذاب لرأيت أمرا عظيما، قيل: معناه قل يا محمد: أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أو أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمرا فظيعا، ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أي لو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم.

قوله تعالى: ( إِذْ يَرَوْنَ ) قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها ( الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) أي بأن القوة لله جميعا معناه لرأوا وأيقنوا أن القوة لله جميعا.

وقرأ أبو جعفر ويعقوب إن القوة وإن الله بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله ( إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ) مع إضمار الجواب

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( 166 ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )

( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ ) هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض، هذا قول أكثر المفسرين، وقال السدي: هم الشياطين يتبرءون من الإنس ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ) أي عنهم ( الأسْبَاب ) أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة، وقال ابن جريج: الأرحام كما قال الله تعالى: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ( 101- المؤمنون ) وقال السدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ( 23- الفرقان ) .

وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنة يقال للحبل سبب وللطريق سبب.

( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) يعني الأتباع ( لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ) أي رجعة إلى الدنيا ( فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ) أي من المتبوعين ( كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ) اليوم ( كَذَلِك ) أي كما أراهم العذاب كذلك ( يُرِيهِمُ اللَّهُ ) وقيل كتبرئ بعضهم من بعض يريهم الله ( أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ ) ندامات ( عَلَيْهِمْ ) جمع حسرة قيل يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لِمَ عملوا، وقيل يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان: إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون ( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار )

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 ) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 169 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا ) نـزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالحلال ما أحله الشرع طيبا، قيل: ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام، وقيل الطيب الطاهر ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وخطوات الشيطان آثاره وزلاته، وقيل هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة: هي المحقرات من الذنوب. وقال الزجاج: طرقه ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) بين العداوة وقيل مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.

وأبان يكون لازما ومتعديا ثم ذكر عداوته فقال: ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ) أي بالإثم وأصل السوء ما يسوء صاحبه وهو مصدر ساء يسوء سوأ ومساءة أي أحزنه، وسوأته فساء أي حزنته فحزن ( وَالْفَحْشَاء ) المعاصي وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالسراء والضراء. روى باذان عن ابن عباس قال: الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد والسوء من الذنوب ما لا حد فيه. وقال السدي: هي الزنا وقيل هي البخل ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) تحريم الحرث والأنعام.