قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 ) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 12 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ( 13 ) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( 14 ) .

( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) بالنبوة والحكمة, ( وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

( وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ) وقد عرفنا أن لا نَنَالَ شيئا إلا بقضائه وقدره, ( وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) بيَّنَ لنا الرشد, وبصَّرنَا طريق النجاة. ( وَلَنَصْبِرَنَّ ) اللام لام القسم, مجازه: والله لنصبرَن, ( عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) يَعْنُون: إلا أن ترجعوا, أو حتى ترجعوا إلى ديننا .

( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: من بعد هلاكهم.

( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ) أي: قيامه بين يدي كما قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن - 46 ) , فأضاف قيام العَبدِ إلى نفسه, كما تقول: نَدِمتُ على ضربك، أي: على ضربي إياك, ( وَخَافَ وَعِيدِ ) أي عقابي.

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 15 ) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ( 16 ) .

قوله عز وجل: ( وَاسْتَفْتَحُوا ) أي: استنصروا. قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم, وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبْنا, نظيره قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ( الأنفال - 32 ) .

وقال مجاهد وقتادة: واستفتحوا يعني الرسل، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام, رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( نوح - 26 ) وقال موسى عليه السلام: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهَمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( يونس - 88 ) .

, الآية

( وَخَابَ ) خسر. وقيل: هلك, ( كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) والجبَّار: الذي لا يرى فوقه أحدا. والجبرية: طلب العلو بما لا غاية وراءه . وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل.

وقيل: الجبَّار: الذي يجبر الخلق على مرادهِ, والعنيد: المعاند للحق ومجانبه. قاله مجاهد.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- : هو المُعْرض عن الحق.

وقال مقاتل: هو المتكبر.

وقال قتادة: « العنيدُ » الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .

( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ) أي: أمامه, كقوله تعالى وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ( الكهف - 79 ) أي: أمامهم .

قال أبو عبيدة: هو من الأضداد .

وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك, وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه .

وقال مقاتل: « من ورائه جهنم » أي: بعده .

( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) أي: من ماءٍ هو صديد, وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القَيْح والدم .

وقال محمد بن كعب: ما يسيل من فُروج الزُّناةِ, يُسْقَاه الكافر .

يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( 17 ) .

( يَتَجَرَّعُهُ ) أي: يتحسَّاهُ ويشربه, لا بمرةٍ واحدة, بل جرعةً جرعةً, لمرارتِه وحرارته, ( ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ ) و « يكاد » : صلة, أي: لا يسيغه, كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور - 40 ) أي: لم يَرَهَا.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : لا يجيزه.

وقيل: معناه يكاد لا يسيغه, ويسيغه فيغلي في جوفه.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقى من ماء صديد يتجرعه » , قال: يقرب إلى فيه فيتكرهه, فإذا أُدني منه شوى وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطَّع أمعاءه, حتى يخرج من دُبُره, يقول الله عز وجل: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( محمد - 15 ) , ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ( الكهف - 29 ) .

وقوله عز وجل: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: يجد هَمَّ الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.

قال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده.

وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه, ومن فوقه ومن تحته, وعن يمينه وعن شماله.

( وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) فيستريح, قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت, ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة. نظيرها ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ( الأعلى - 13 ) .

( وَمِنْ وَرَائِهِ ) أمامه, ( عَذَابٌ غَلِيظٌ ) شديد, وقيل: العذاب الغليظ الخلود في النار.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 18 ) .

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني: أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ ( الزمر - 60 ) - أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة, ( كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ) وصف اليومَ بالعصوف, والعصُوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها, كما يقال: يوم حار ويوم بارد, لأن الحر والبرد فيه.

وقيل: معناه: في يوم عاصف الريح, فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل. وهذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار, يريد: أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذَرَتْه الريح لا ينتفع به, فذلك قوله تعالى:

( لا يَقْدِرُونَ ) يعني: الكفار ( مِمَّا كَسَبُوا ) في الدنيا, ( عَلَى شَيْءٍ ) في الآخرة, ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .