أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 19 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 20 ) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ( 21 ) .

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ ) قرأ حمزة والكسائي « خالقُ السماواتِ والأرضِ » وفي سورة النور « خالق كل دابة » مضافا.

وقرأ الآخرون « خلق » على الماضي « والأرض » وكلٍّ بالنصب.

و « بالحق » أي: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمرٍ عظيم, ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سواكم أَطْوَعَ لله منكم.

( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) منيع شديد, يعني أن الأشياء تسهل في القدرة, لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلّ وعَظُم.

قوله عز وجل: ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ) [ أي: خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ] ( فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ) يعني: الأتباع, ( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) أي: تكبَّروا على الناس وهم القادة والرؤساء: ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) جمع تابع, مثل: حَرَس وحارس, ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ) دافعون, ( عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

( قَالُوا ) يعني القادة المتبوعين: ( لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) أي: لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى, فلما أضلَّنا دعوناكم إلى الضلالة ، ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) مهربٍ ولا منجاةٍ.

قال مقاتل: يقولون في النار: تعالوا نجزع, فيجزعون خمسمائة عام, فلا ينفعهم الجزع, ثم يقولون: تعالوا نصبر, فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم, فحينئذ يقولون: ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) .

قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة. فقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( غافر - 49 ) , فردت الخزنة عليهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى , فردت الخزنة عليهم: ( ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) ( غافر - 50 ) فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف - 77 ) سألوا الموت, فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما, واليوم كألف سنة مما تعدون, ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون, فلما يئسوا مما قَبْله قال بعضهم لبعض: إنه قد نـزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر, فلعل الصبر ينفعنا كما صبرَ أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم, فأجمعوا على الصبر, فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا: « سواءٌ علينا أجَزِعْنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص » , أي: من منجى.

قال: فقام إبليس عند ذلك فخطبهم, فقال: « إن الله وعدكم وعد الحق » الآية, فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودُوا: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( غافر - 10 ) قالوا فنادوا الثانية: « فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » , فردّ عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الآيات ( السجدة - 13 ) فنادوا الثالثة: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) , فردّ عليهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ الآيات ( إبراهيم - 44 ) , ثم نادوا الرابعة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فرد عليهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ , الآية ( فاطر - 37 ) قال: فمكث عليهم ما شاء الله, ثم ناداهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ , فلما سمعُوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا, فقالوا عند ذلك: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ , قال عند ذلك: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ( المؤمنون 105- 108 ) فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم, فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض, وأطبقت عليهم النار.

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 22 ) .

قوله تعالى: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ ) يعني: إبليس, ( لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ ) أي: فرغ منه فأدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ وأهلَ النارِ النارَ.

وقال مقاتل: يوضع له منبر في النار, فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم:

( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) فوفى لكم به, ( وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) وقيل: يقول لهم: قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار. ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) ولاية. وقيل: لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه, ( إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) هذا استثناء منقطع معناه: لكن ( دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان, ( مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ) بمُغِيثكم, ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) بمغيثيَّ.

قرأ الأعمش وحمزة « بمصرخيِّ » بكسر الياء, والآخرون بالنصب لأجل التضعيف, ومَنْ كسر فلالتقاءِ الساكنين, حرِّكت إلى الكسر, لأن الياء أخت الكسرة, وأهل النحو لم يرضوه, وقيل: إنه لغة بني يربوع. والأصل ( بمصرخيني ) فذهبت النون لأجل الإضافة, وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة .

( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) أي: كفرت بجعلكُم إياي شريكًا في عبادته وتبرأت من ذلك.

( إِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين, ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أنبأنا محمد بن أحمد الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, حَدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن رشدين بن سعد, أخبرني عبد الرحمن بن زياد, عن دخين الحجري, عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال: « يقول عيسى عليه السلام ذلكم النبيُّ الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ, حتى آتي ربي عز وجل فيشفِّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي, ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون مَنْ يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس, هو الذي أضلَّنا, فيأتونه فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا, فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمَّها أحدٌ, ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) الآية . »

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ( 23 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( 24 ) .

قوله عز وجل: ( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) يسلِّم بعضهم على بعض, وتسلِّم الملائكة عليهم.

وقيل: المحيِّي بالسلام هو الله عز وجل.

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا ) ألم تعلم, والمَثَلُ: قول سائر لتشبيه شيء بشيء. ( كَلِمَةً طَيِّبَةً ) وهي قول: لا إله إلا الله, ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر .

وقال ظبيان عن ابن عباس هي شجرة في الجنة .

( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) في الأرض, ( وَفَرْعُهَا ) أعلاها , ( فِي السَّمَاءِ ) كذلك أصل هذه الكلمة: راسخٌ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق, فإذا تكلم بها عرجت, فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل. قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر - 10 ) .