لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

قوله تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) قرأ حمزة وحفص: ليس البر بنصب الراء، والباقون برفعها، فمن رفعها جعل ( الْبِر ) اسم ليس، وخبره قوله: أن تولوا، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم. كقوله تعالى مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا ( 25- الجاثية ) . والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم: أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان. وقال الآخرون: المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نـزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة.

ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونـزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنـزل الله هذه الآية فقال: ( لَيْسَ الْبِرَّ ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ ) ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك. ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ ) قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر.

قوله تعالى: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء:

لعمـرك مـا الفتيـان أن تنبـت اللحى ولكنمــا الفتيـان كـل فتـى نـدي

فجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ( 163- آل عمران ) أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالى وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( 132- طه ) أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى.

( وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ ) ( وَالْكِتَاب ) يعني الكتب المنـزلة ( وَالنَّبِيِّينَ ) أجمع ( وَآتَى الْمَالَ ) أعطى المال ( عَلَى حُبِّهِ ) اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير: إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: « أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان » .

وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى.

( ذَوِي الْقُرْبَى ) أهل القرابة.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة » .

قوله تعالى: ( وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) قال مجاهد: يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل: هو الضيف ينـزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » ( وَالسَّائِلِين ) يعني الطالبين.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ردوا السائل ولو بظلف محرق » وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه » قوله تعالى ( وَفِي الرِّقَابِ ) يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين، وقيل: عتق النسمة وفك الرقبة وقيل: فداء الأسارى ( وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) وأعطى الزكاة ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ) فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس ( إِذَا عَاهَدُوا ) يعني إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا، وإذا عاهدوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره: وهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال: هم والموفون كذا، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال ( وَالصَّابِرِينَ ) وفي نصبها أربعة أوجه:

قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ( سورة النساء : 162 ) وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ، وقيل معناه أعني الصابرين، وقيل نصبه نسقا على قوله ذوي القربى أي وآتى الصابرين.

وقال الخليل: نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم [ كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ( 162- النساء ) ] .

والذم كقوله تعالى مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ( 61- الأحزاب ) .

قوله تعالى ( فِي الْبَأْسَاءِ ) أي الشدة والفقر ( وَالضَّرَّاء ) المرض والزمانة ( وَحِينَ الْبَأْسِ ) أي القتال والحرب.

أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . يعني إذا اشتد الحرب ( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) في إيمانهم ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) قال الشعبي والكلبي وقتادة: نـزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، قال مقاتل بن حيان: كانت بين بني قريظة والنضير، وقال سعيد بن جبير: كانت بين الأوس والخزرج، وقالوا جميعا كان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور فأقسموا: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا .

قوله ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) أي فرض عليكم القصاص ( فِي الْقَتْلَى ) والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله.

ثم بين المماثلة فقال: ( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى ) وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد، ولا والد بولد، ولا مسلم بذمي، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد. هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: « سألت عليا رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر » . وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد » . وذهب الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، وإلى أن الحر يقتل بالعبد، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، وتقتل الجماعة بالواحد. « روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا » ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن، وفي الأطراف لو قطع يدا شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ولا يجري بين الذكر والأنثى ولا بين العبيد ولا بين الحر والعبد، وعند الآخرين الطرف في القصاص مقيس على النفس .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن منير أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أنس كتاب الله القصاص » فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره » .

قوله تعالى ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين، قالوا: العفو أن يقبل الدية في قتل العمد وقوله ( من أخيه ) أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله ( لَه ) ( مِنْ أَخِيهِ ) ترجعان إلى من وهو القاتل، وقوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل.

قوله تعالى: ( فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه.

( وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل، وقال قوم: لا دية له إلا برضاء القاتل، وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي، وحجة المذهب الأول ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل » .

قوله تعالى: ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتما في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص، فخير الله تعالى هذه الأمة بين القصاص وبين العفو عن الدية تخفيفا منه ورحمة.

( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أن يقتل قصاصا، قال ابن جريج: يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو، وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا بالقتل، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) وقال في آخر الآية ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) وأراد به أخوة الإيمان، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أي بقاء، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل يقتل يمتنع عن القتل، فيكون فيه بقاؤه وبقاء من هم بقتله، وقيل في المثل: « القتل قلل القتل » وقيل في المثل: « القتل أنفى للقتل » وقيل معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة، فإنه إذا اقتص منه حيي في الآخرة وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة ( يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أي تنتهون عن القتل مخافة القود.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ ) أي فرض عليكم ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) أي جاءه أسباب الموت وآثاره من العلل والأمراض ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) أي مالا نظيره قوله تعالى وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ( 272- البقرة ) ( الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين على من مات وله مال ثم نسخت بآية الميراث .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا محمد بن أحمد بن الوليد أخبرنا الهيثم بن جميل أخبرنا حماد بن سلمة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث » فذهب جماعة إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي وجوبها في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقارب، وهو قول ابن عباس وطاووس وقتادة والحسن قال طاووس: من أوصى لقوم سماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته، وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة وهي حتمية في حق الذين لا يرثون.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا طاهر بن أحمد أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه » .

قوله تعالى: ( بالمعروف ) يريد يوصي بالمعروف ولا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير، قال ابن مسعود: الوصية للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا عبيد الله بن موسى وأبو نعيم عن سفيان الثوري عن سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن سعد بن مالك قال جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصي بمالي كله؟ قال لا قلت: فالشطر؟ قال لا قلت: فالثلث؟ قال: « الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم » .

وعن ابن أبي مليكة أن رجلا قال لعائشة رضي الله عنها: إني أريد أن أوصي، قالت كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنما قال الله ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) وإن هذا شيء يسير فاترك لعيالك

وقال علي رضي الله عنه: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك. وقال الحسن البصري رضي الله عنه يوصي بالسدس أو الخمس أو الربع، وقال الشعبي إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع.

قوله تعالى: ( حَقًّا ) نصب على المصدر وقيل على المفعول أي جعل الوصية حقا ( عَلَى الْمُتَّقِينَ ) المؤمنين

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 )

قوله تعالى: ( فَمَنْ بَدَّلَهُ ) أي غير الوصية في الأوصياء أو الأولياء أو الشهود ( بَعْدَمَا سَمِعَهُ ) أي بعد ما سمع قول الموصي، ولذلك ذكر الكناية مع كون الوصية مؤنثة، وقيل الكناية راجعة إلى الإيصاء كقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ( 275- البقرة ) رد الكناية إلى الوعظ ( فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) والميت بريء منه ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) لما أوصى به الموصي ( عَلِيمٌ ) بتبديل المبدل، أو سميع لوصيته عليم بنيته.