ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 119 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 120 )

( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) معنى الإصلاح: الاستقامة على التوبة, ( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ) أي: من بعد الجهالة, ( لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) قوله تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) قال ابن مسعود: الأمة, معلم الخير, أي: كان معلمًا للخير, يأتم به أهل الدنيا, وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة.

قال مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار.

قال قتادة: ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه.

( قَانِتًا لِلَّهِ ) مطيعا له, وقيل: قائما بأوامر الله تعالى, ( حَنِيفًا ) مسلما مستقيما على دين الإسلام. وقيل: مخلصا. ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 121 ) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 122 ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 123 ) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 124 )

( شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ ) اختاره, ( وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي: إلى دين الحق. ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) يعني الرسالة والخلة وقيل: لسان الصدق والثناء والحسن.

وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأمة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم.

وقيل: أولادا أبرارا على الكبر.

وقيل: القبول العام في جميع الأمم.

( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) مع آبائه الصالحين في الجنة. وفي الآية تقديم وتأخير, مجازه: وآتيناه في الدنيا والآخرة حسنة, وإنه لمن الصالحين. ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد, ( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) حاجا مسلما, ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

وقال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته, وما لم ينسخ صار شرعا له . قوله تعالى: ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) قيل: معناه إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه أي: خالفوا فيه.

وقيل: معناه ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه أي: خالفوا فيه فقال قوم: هو أعظم الأيام, لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت.

وقال قوم: بل أعظم الأيام يوم الأحد, لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الأشياء, فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم, وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة.

قال الكلبي: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة, فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه يوم الجمعة, ولا تعملوا فيه لصنعتكم, وستة أيام لصناعتكم, فأبوا وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت, فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة, فقالوا لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا - يعنون اليهود- فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة هذه الأمة, فقبلوها وبورك لهم فيها.

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي, أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي, حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان, حدثنا أحمد بن يوسف السلمي, أنبأنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, وأوتيناه من بعدهم, فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه, فهدانا الله له, فهم لنا فيه تبع, فاليهود غدا, والنصارى بعد غد » .

قال الله تعالى: ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) [ قال قتادة: الذين اختلفوا فيه هم ] اليهود, استحله بعضهم, وحرمه بعضهم.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 125 )

( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ) بالقرآن, ( وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) يعني مواعظ القرآن.

وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب.

وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف.

( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن, أي: أعرض عن أذاهم, ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق, نسختها آية القتال .

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ( 126 )

( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) هذه الآيات نـزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد, من تبقير البطون, والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان, فتركوا حنظلة لذلك- فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم لنـزيدن على صنيعهم, ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد, فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه, وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه, وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها, ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا, حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة, ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات, وصولا للرحم, ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى, أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك » , فأنـزل الله تعالى: ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا ) الآية. ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) أي: ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل نصبر, وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه .

قال ابن عباس والضحاك: كان هذا قبل نـزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال, فلما أعز الله الإسلام وأهله نـزلت براءة, وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .

وقال النخعي, والثوري, ومجاهد, وابن سيرين: الآية محكمة نـزلت في من ظلم بظلامة, فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه, أمر بالجزاء والعفو, ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ( 127 ) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ( 128 )

( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) أي: بمعونة الله وتوفيقه, ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) في إعراضهم عنك, ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) أي: فيما فعلوا من الأفاعيل.

قرأ ابن كثير هاهنا وفي النمل ( ضَيْقٍ ) بكسر الضاد وقرأ الآخرون بفتح الضاد, قال أهل الكوفة: هما لغتان مثل رطل ورطل.

وقال أبو عمرو: « الضيق » بالفتح: الغم, وبالكسر: الشدة.

وقال أبو عبيدة: « الضيق » بالكسر في قلة المعاش وفي المساكن, فأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح.

وقال ابن قتيبة: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين, ولين ولين, فعلى هذا هو صفة, كأنه قال: ولا تكن في أمر ضيق من مكرهم. ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) المناهي, ( وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) بالعون والنصرة.