وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ( 28 )

( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) نـزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنـزل ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم ( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك ( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) لينا وهي العدة أي: عدهم وعدا جميلا وقيل: القول الميسور أن تقول: يرزقنا الله وإياك.

وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ( 29 ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( 30 ) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( 31 )

( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) قال جابر: إني صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره فنـزع قميصه فأعطاه إياه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنـزل الله تعالى: « ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك » يعني: ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق كالمغلولة يده لا يقدر على مدها. ( وَلا تَبْسُطْهَا ) بالعطاء ( كُلَّ الْبَسْطِ ) فتعطي جميع ما عندك ( فَتَقْعُدَ مَلُومًا ) يلومك [ سائلوك ] بالإمساك إذا لم تعطهم و « الملوم » : الذي أتى بما يلوم نفسه أو يلومه غيره ( مَحْسُورًا ) منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقال: حسرته بالمسألة إذا ألحفت عليه ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة.

قال قتادة: « محسورا » نادما على ما فرط منك. ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ) يوسع ( الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي: يقتر ويضيق ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) قوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) فقر ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة فنهوا عنه وأخبروا أن رزقهم ورزق أولادهم على الله تعالى ( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر « خَطأ » بفتح الخاء والطاء مقصورا. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء ممدودا وقرأ الآخرون بكسر الخاء وجزم الطاء ومعنى الكل واحد أي: إثما كبيرا.

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ( 32 ) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( 33 )

( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ) ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها » .

( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) أي: قوة وولاية على القاتل بالقتل قاله مجاهد وقال الضحاك: سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا.

( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) قرأ حمزة والكسائي: « فلا تسرف » بالتاء يخاطب ولي القتيل وقرأ الآخرون: بالياء على الغائب أي: لا يسرف الولي في القتل.

واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه فقال ابن عباس, وأكثر المفسرين: معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه.

وقال سعيد بن جبير: إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل [ وحده ] حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه.

وقال قتادة: معناه لا يمثل بالقاتل .

( إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ) يعني: إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله هذا قول مجاهد.

وقال قتادة: الهاء راجعة إلى ولي المقتول معناه: أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية.

وقيل في قوله: ( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) إنه أراد به القاتل المعتدي يقول: لا يتعدى بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه.

وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ( 34 ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 35 ) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( 36 )

( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) بالإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه. وقيل: أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه.

( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ) قال السدي: كان مطلوبا وقيل: العهد يسأل عن صاحب العهد فيقال: فيما نقضت كالمؤودة تسأل فيم قتلت؟ ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ ) قرأ حمزة والكسائي وحفص « بالقسطاس » بكسر القاف والباقون بضمه وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي: بميزان العدل وقال الحسن: هو القبان قال مجاهد: هو رومي وقال غيره: هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي: زنوا بالعدل ( الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي: عاقبة. ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) قال قتادة: لا تقل: رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه.

وقال مجاهد: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.

قال القتيـبي: لا تتبعه بالحدس والظن. وهو في اللغة اتباع الأثر يقال: قفوت فلانا أقفوه وقفيته وأقفيته إذا اتبعت أثره وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار.

قال القتيـبي: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور أي: يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها .

وحقيقة المعنى: لا تتكلم [ أيها الإنسان ] بالحدس والظن.

( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) قيل: معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده.

وقيل: يسأل السمع والبصر والفؤاد عما فعله المرء.

وقوله: ( كُلُّ أُولَئِكَ ) أي: كل هذه الجوارح والأعضاء وعلى القول الأول يرجع « أولئك » [ إلى ] أربابها.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفاء حدثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز أخبرنا الفضل بن دكين حدثنا سعد بن أوس العبسي حدثني بلال بن يحيى العبسي أن شتير بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: « قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر مَنِيَّ » قال: فحفظتها قال سعد المني ماؤه .

وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ( 37 )

( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا ) أي بطرا وكبرا وخيلاء وهو تفسير المشي فلذلك أخرجه على المصدر, ( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ) أي لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها ( وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) أي لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك. معناه: أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء.

وقيل: ذكر ذلك لأن من مشى مختالا يمشي مرة على عقبيه ومرة على صدور قدميه فقيل له: إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن المسعودي عن عثمان بن مسلم بن هرمز عن نافع بن جبير بن مطعم عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا مشى يتكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب » .

أخبرنا أبو محمد الجرجاني أخبرنا أبو القاسم الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليم حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث » .

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ( 38 )

( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) قرأ ابن عامر وأهل الكوفة: برفع الهمزة وضم الهاء على الإضافة ومعناه: كل الذي ذكرنا من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ( كَانَ سَيِّئُهُ ) أي: سيئ ما عددنا عليك عند ربك مكروها؛ لأنه قد عد أمورا حسنة كقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ وغير ذلك.

وقرأ الآخرون: « سيئة » منصوبة منونة يعني: كل الذي ذكرنا من قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه إذ الكل يرجع إلى المنهي عنه دون غيره ولم يقل مكروهة لأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة. [ وقوله ( مَكْرُوهًا ) على التكرير لا على الصفة مجازه: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها ] أو رجع إلى المعنى دون اللفظ لأن السيئة الذنب وهو مذكر.