وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 105 ) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَـزَّلْنَاهُ تَنْـزِيلا ( 106 )

قوله عز وجل: ( وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ ) يعني القرآن ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا ) للمطيعين ( وَنَذِيرًا ) للعاصين. ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قيل: معناه: أنـزلناه نجوما لم ينـزل مرة واحدة بدليل قراءة ابن عباس: ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) بالتشديد وقراءة العامة بالتخفيف أي: فصلناه وقيل: بيناه وقال الحسن: معناه فرقنا به بين الحق والباطل ( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) أي: على تؤدة وترتيل وترسل في ثلاث وعشرين سنة ( وَنَـزَّلْنَاهُ تَنْـزِيلا )

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107 ) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ( 108 ) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( 109 )

( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) هذا على طريق الوعيد والتهديد ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) قيل: هم مؤمنوا أهل الكتاب وهم الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمر بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم .

( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) يعني: القرآن ( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) أي: يسقطون على الأذقان قال ابن عباس: أراد بها الوجوه ( سُجَّدًا ) ( وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) أي: كائنا واقعا . ( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ ) أي: يقعون على الوجوه يبكون, البكاء مستحب عند قراءة القرآن ( وَيَزِيدُهُمْ ) نـزول القرآن ( خُشُوعًا ) خضوعا لربهم. نظيره قوله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( مريم- 58 ) .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو عمرو بن بكر بن محمد المزني حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد حدثنا الحسن بن الفضل البجلي أخبرنا عاصم عن علي بن عاصم حدثنا المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا » .

أخبرنا أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن أخبرنا أحمد بن بكر بن محمد بن حمدان حدثنا محمد بن يونس الكديمي أنبأنا عبد الله بن محمد الباهلي حدثنا أبو حبيب الغنوي حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « حرمت النار على ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله » .

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ( 110 )

قوله عز وجل ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ) قال ابن عباس: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يبكي ويقول في سجوده: يا الله يا رحمن فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين! فأنـزل الله تعالى هذه الآية . ومعناه: أنهما اسمان لواحد.

( أَيًّا مَا تَدْعُوا ) « ما » صلة معناه: أيا ما تدعوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه ( فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى )

( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال: نـزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنـزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم: ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .

وبهذا الإسناد عن محمد بن إسماعيل قال: حدثنا مسدد عن هشيم عن أبي بشر بإسناده مثله وزاد ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن .

وقال قوم: الآية في الدعاء وهو قول عائشة رضي الله عنها والنخعي ومجاهد ومكحول: أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا طلق بن غنام حدثنا زائدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قوله: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » قالت: أنـزل ذلك في الدعاء .

وقال عبد الله بن شداد: كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: « اللهم ارزقنا مالا وولدا فيجهرون بذلك فأنـزل الله هذه الآية: ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) أي: لا ترفع صوتك بقراءتك أو بدعائك ولا تخافت بها . »

والمخافتة: خفض الصوت والسكوت « وابتغ بين ذلك سبيلا » أي: بين الجهر والإخفاء.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الخزاعي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: « مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك فقال: إني أسمعت من ناجيت فقال: ارفع قليلا وقال لعمر: مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال اخفض قليلا » .

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( 111 )

( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته ومعنى الحمد لله هو: الثناء عليه بما هو أهله.

قال الحسين بن الفضل: يعني: الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا.

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال مجاهد: لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به.

( وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) أي: وعظمه عن أن يكون له شريك أو ولي.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا الإمام أبو الطيب سهل [ بن محمد بن سليمان حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا نضر بن حماد أبو الحارث الوراق حدثنا شعبة ] عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسن بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أنبأنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة أن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده » .

أخبرنا أبو الفضل بن زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا يحيى بن خالد بن أيوب المخزومي حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشر الخزامي الأنصاري عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا علي بن الجعد حدثنا زهير حدثنا منصور عن هلال بن بشار عن الربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت » .

 

سورة الكهف

 

مائة وعشر آيات

وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ( 1 ) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( 2 )

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) أثنى الله على نفسه بإنعامه على خلقه وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنـزال القرآن عليه كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) ( قَيِّمًا ) فيه تقديم وتأخير معناه: أنـزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا « قيما » أي: مستقيما. قال ابن عباس: عدلا. وقال الفراء: قيما على الكتب كلها أي: مصدقا لها ناسخا لشرائعها.

وقال قتادة: ليس على التقديم والتأخير بل معناه: أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ولكن جعله قيما ولم يكن مختلف على ما قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ( النساء- 82 ) .

وقيل: معناه لم يجعله مخلوقا وروي عن ابن عباس في قوله: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الزمر- 28 ) أي: غير مخلوق.

( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) أي: لينذر ببأس شديد ( مِنْ لَدُنْهُ ) أي: من عنده ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) أي: الجنة.

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ( 3 ) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( 4 )

( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) أي: مقيمين فيه. ( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا