وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( 28 )

قوله عز وجل: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية نـزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فأنـزل الله عز وجل: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) أي: احبس يا محمد نفسك ( مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) طرفي النهار ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي: يريدون الله لا يريدون به عرضا من الدنيا.

قال قتادة: نـزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نـزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم » .

( وَلا تَعْدُ ) أي: لا تصرف ولا تتجاوز ( عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) إلى غيرهم ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: طلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا.

( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) أي: جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني: عيينة بن حصن. وقيل: أمية بن خلف ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) أي مراده في طلب الشهوات ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال قتادة ومجاهد: ضياعا وقيل: معناه ضيع أمره وعطل أيامه وقيل: ندما. وقال مقاتل ابن حيان: سرفا. وقال الفراء: متروكا. وقيل باطلا. وقيل: مخالفا للحق. وقال الأخفش: مجاوزا للحد . قيل: معنى التجاوز في الحد هو قول عيينة: إن أسلمنا أسلم الناس وهذا إفراط عظيم.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ( 29 )

( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: ما ذكر من الإيمان والقرآن معناه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس [ قد جاءكم من ربكم الحق ] وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلي من ذلك شيء.

( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ( فصلت- 40 ) .

وقيل معنى الآية: وقل الحق من ربكم ولست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم نارا أحاط بكم سرادقها وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ( الإنسان- 30 ) .

( إِنَّا أَعْتَدْنَا ) أعددنا وهيأنا من الإعداد وهو العدة ( لِلظَّالِمِين ) للكافرين ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) « السرادق » : الحجرة التي تطيف بالفساطيط.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنبأنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: « سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة » .

قال ابن عباس: هو حائط من نار.

وقال الكلبي: هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة.

وقيل: هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( المرسلات- 30 ) .

( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ) من شدة العطش ( يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ )

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثنا عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ( بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه » .

وقال ابن عباس: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت.

وقال مجاهد: هو القيح والدم.

وسئل ابن مسعود عن: « المهل » فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ثم قال: هذا أشبه شيء بالمهل .

( يَشْوِي الْوُجُوهَ ) ينضج الوجوه من حره.

( بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ ) النار ( مُرْتَفَقًا ) قال ابن عباس: منـزلا وقال مجاهد: مجتمعا وقال عطاء: مقرا. وقال القتيـبي: مجلسا. وأصل « المرتفق » : المتكأ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ( 30 ) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ( 31 ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( 32 )

قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ) فإن قيل: أين جواب قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ؟

قيل: جوابه قوله: ( أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي ) وأما قوله: ( إِنَّا لا نُضِيعُ ) فكلام معترض .

وقيل: فيه إضمار معناه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجرهم بل نجازيهم ثم ذكر الجزاء فقال . ( أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أي: إقامة يقال: عدن فلان بالمكان إذا أقام به سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم ثلاث أساور واحد من ذهب وواحد من فضة وواحد من لؤلؤ ويواقيت ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ ) وهو ما رق من الديباج ( وَإِسْتَبْرَقٍ ) وهو ما غلظ منه ومعنى الغلظ في ثياب الجنة: إحكامه وعن أبي عمران الجوني قال: السندس هو الديباج المنسوج بالذهب ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا ) في الجنان ( عَلَى الأرَائِكِ ) وهي السرر في الحجال واحدتها أريكة ( نِعْمَ الثَّوَابُ ) أي نعم الجزاء ( وَحَسُنَتْ ) الجنان ( مُرْتَفَقًا ) أي: مجلسا ومقرا. ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ ) الآية قيل: نـزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل [ وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل ] .

وقيل: هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس وقال مقاتل: يمليخا والآخر كافر واسمه قطروس وقال وهب: قطفير وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة وَالصَّافَّاتِ وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل: كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار فإني أشتري منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بذلك ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا المؤمن: اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى صاحبه خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا: اللهم إني أشتري منك متاعا وخدما في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتصيبني بخير فقال: ما فعل مالك وقد اقتسمنا مالا واحدا وأخذت شطره؟ فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا ؟ اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده فقضي لهما أن توفيا فنـزل فيهما: « فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( الصافات- 51,50 ) . »

وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنـزل فيهما .

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ ) اذكر لهم خبر رجلين ( جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) بستانين ( مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) أي: أطفناهما من جوانبهما بنخل والحفاف: الجانب وجمعه أحفة, يقال: حف به القوم أي: طافوا بجوانبه ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) أي: جعلنا حول الأعناب النخيل ووسط الأعناب الزرع.

وقيل: « بينهما » أي بين الجنتين زرعا يعني: لم يكن بين الجنتين موضع خراب.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ( 33 ) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ( 34 )

( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ ) أي: أعطت كل واحدة من الجنتين ( أُكُلَهَا ) ثمرها تاما ( وَلَمْ تَظْلِمْ ) لم تنقص ( مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا ) قرأ العامة بالتشديد وقرأ يعقوب بتخفيف الجيم ( خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يعني: شققنا وأخرجنا وسطهما نهرا. ( وَكَانَ لَهُ ) لصاحب البستان ( ثَمَرٌ ) قرأ عاصم وأبو جعفر ويعقوب ( ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم وكذلك: « بثمره » وقرأ أبو عمرو: بضم الثاء ساكنة الميم وقرأ الآخرون بضمهما.

فمن قرأ بالفتح هو جمع ثمرة وهو ما تخرجه الشجرة من الثمار المأكولة.

ومن قرأ بالضم فهي الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف جمع ثمار. وقال مجاهد: ذهب وفضة وقيل: جميع الثمرات.

قال الأزهري: « الثمرة » تجمع على « ثَمَر » ويجمع « الثمر » على « ثِمار » ثم تجمع « الثمار » على « ثُمُر » .

( فَقَالَ ) يعني صاحب البستان ( لِصَاحِبِهِ ) المؤمن ( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يخاطبه ويجاوبه: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) أي: عشيرة ورهطا. وقال قتادة: خدما وحشما. وقال مقاتل: ولدا تصديقه قوله تعالى: « إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا » ( الكهف- 39 ) .