سورة مريم

 

مكية, وهي ثمان وتسعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

كهيعص ( 1 ) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( 2 )

قوله عز وجل ( كهيعص ) قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء, وضده ابن عامر, وحمزة, وبكسرهما: الكسائي وأبو بكر, والباقون بفتحهما.

ويظهر الدال عند الذال من « صاد ذكر » ابن كثير, ونافع, وعاصم [ ويعقوب ] والباقون بالإدغام .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو اسم من أسماء الله تعالى.

وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.

وقيل: اسم للسورة. وقيل: هو قسم أقسم الله به.

ويروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ( كهيعص ) قال: الكاف من كريم وكبير, والهاء من هاد, والياء من رحيم, والعين من عليم, وعظيم, والصاد من صادق. وقال الكلبي: معناه: كاف لخلقه, هاد لعباده, يده فوق أيديهم, عالم ببريته, صادق في وعده ( ذِكْرُ ) رفع بالمضمر, أي: هذا الذي نتلوه عليك ذكر ( رَحْمَةِ رَبِّكَ ) [ وفيه تقديم وتأخير ] معناه: ذكر ربك ( عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) برحمته.

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ( 3 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ( 4 ) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ( 5 ) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ( 6 )

( إِذْ نَادَى ) دعا ( رَبَّهُ ) في محرابه ( نِدَاءً خَفِيًّا ) دعا سرا من قومه في جوف الليل. ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ) ضعف ورق ( الْعَظْمُ مِنِّي ) من الكبر. قال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ ) أي: ابيض شعر الرأس ( شَيْبًا ) شمطا ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبني.

وقيل: معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان . ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ) و « الموالي » : بنو العم. قال مجاهد: العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة. وقال الكلبي: الورثة ( مِنْ وَرَائِي ) أي: من بعد موتي.

قرأ ابن كثير: ( مِنْ وَرَائِي ) بفتح الياء, والآخرون بإسكانها.

( وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ) لا تلد ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ) أعطني من عندك ( وَلِيًّا ) ابنا. ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قرأ أبو عمرو والكسائي: بجزم الثاء فيهما, على جواب الدعاء, وقرأ الآخرون بالرفع على الحال والصفة, أي: وليا وارثا.

واختلفوا في هذا الإرث؛ قال الحسن: معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة.

وقيل: أراد ميراث النبوة والعلم.

وقيل: أراد إرث الحبورة, لأن زكريا كان رأس الأحبار .

قال الزجاج: والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأنه يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله.

والمعنى: أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء, فسأل ربه وليا صالحا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين. وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .

( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) أي برا تقيا مرضيا.

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ( 7 )

قوله عز وجل: ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ) وفيه اختصار, معناه: فاستجاب الله دعاءه فقال: يا زكريا إنا نبشرك, ( بِغُلامٍ ) بولد ذكر ( اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال قتادة والكلبي: لم يسم أحد قبله يحيى .

وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبها ومثلا كما قال الله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا.

والمعنى: أنه لم يكن له مثل, لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط.

وقيل: لم يكن له مثل في أمر النساء, لأنه كان سيدا وحصورا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لم تلد العواقر مثله ولدا.

وقيل: لم يرد الله به اجتماع الفضائل كلها ليحيى, إنما أراد بعضها, لأن الخليل والكليم كانا قبله, وهما أفضل منه.

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ( 8 ) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ( 9 ) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ( 10 )

( قَالَ رَبِّ أَنَّى ) من أين ( يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ) أي: وامرأتي عاقر . ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) أي: يبسا, قال قتادة: يريد نحول العظم, يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا وعسيا: إذا انتهى سنه وكبر, وشيخ عات وعاس: إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف.

وقرأ حمزة والكسائي: عتيا وبكيا وصليا وجثيا بكسر أوائلهن, والباقون برفعها, وهما لغتان. ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) يسير ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ ) قرأ حمزة والكسائي « خلقناك » بالنون والألف على التعظيم, ( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل يحيى ( وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) دلالة على حمل امرأتي ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) أي: صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس.

قال مجاهد: أي لا يمنعك من الكلام مرض.

وقيل: ثلاث ليال سويا أي متتابعات, والأول أصح .

وفي القصة: أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله تعالى انطلق لسانه .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( 11 )

قوله عز وجل: ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون, إذ خرج عليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروه, وقالوا: ما لك يا زكريا؟ ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) فأومأ إليهم, قال مجاهد: كتب لهم في الأرض, ( أَنْ سَبِّحُوا ) أي: صلوا لله ( بُكْرَةً ) غدوة ( وَعَشِيًّا ) ومعناه: أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة, فلما كان وقت حمل امرأته ومنع الكلام حتى خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة.