يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( 12 ) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( 13 )

قوله عز وجل: ( يَا يَحْيَى ) قيل: فيه حذف معناه: ووهبنا له يحيى وقلنا له: يا يحيى, ( خُذِ الْكِتَابَ ) يعني التوراة ( بِقُوَّةٍ ) بجد ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: النبوة ( صَبِيًّا ) وهو ابن ثلاث سنين.

وقيل: أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير.

وعن بعض السلف: من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبيا . ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) رحمة من عندنا, قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:

تحــنن عــلي هــداك المليــك فـــإن لكـــل مقــام مقــالا

أي: ترحم.

( وَزَكَاةً ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص.

وقال قتادة رضي الله عنه: هي العمل الصالح, وهو قول الضحاك.

ومعنى الآية: وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد, ليدعوهم إلى طاعة ربهم ويعمل عملا صالحا في إخلاص.

وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق الله بها على أبويه.

( وَكَانَ تَقِيًّا ) مسلما ومخلصا مطيعا, وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها .

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ( 14 ) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( 15 ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( 16 )

( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ) أي بارا لطيفا بهما محسنا إليهما. ( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) و « الجبار » : المتكبر, وقيل: « الجبار » : الذي يضرب ويقتل على الغضب, و « العصي » : العاصي. ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ ) أي: سلامة له, ( يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال: يوم ولد فيخرج مما كان فيه, ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم, ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله. فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن . قوله عز وجل: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ ) في القرآن ( مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ) تنحت واعتزلت ( مِنْ أَهْلِهَا ) من قومها ( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) أي: مكانا في الدار مما يلي المشرق, وكان يوما شاتيا شديد البرد, فجلست في مشرقة تفلي رأسها.

وقيل: كانت طهرت من المحيض, فذهبت لتغتسل.

قال الحسن: ومن ثم اتخذت النصارى المشرق قبلة .

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( 17 ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( 18 ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ( 19 ) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( 20 )

( فَاتَّخَذَتْ ) فضربت ( مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: سترا.

وقيل: جلست وراء جدار. وقال مقاتل: وراء جبل.

وقال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها, حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد, فبينما هي تغتسل من المحيض قد تجردت, إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق, فذلك قوله:

( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) يعني: جبريل عليه السلام ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) وقيل: المراد من الروح عيسى عليه السلام, جاء في صورة بشر فحملت به والأول أصح فلما رأت مريم جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد فـ: ( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) مؤمنا مطيعا.

فإن قيل إنما يستعاذ من الفاجر, فكيف قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا؟

قيل: هذا كقول القائل: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني. أي: ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم وكذلك هاهنا.

معناه: وينبغي أن تكون تقواك مانعا لك من الفجور . ( قَالَ ) لها جبريل: ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ ) قرأ نافع وأهل البصرة: « ليهب لك » بالياء, أي: ليهب لك ربك, وقرأ الآخرون: « لأهب لك » أسند الفعل إلى الرسول, وإن كانت الهبة من الله تعالى, لأنه أرسل به.

( غُلامًا زَكِيًّا ) ولدا صالحا طاهرا من الذنوب. ( قَالَتْ ) مريم ( أَنَّى ) من أين ( يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) لم يقربني زوج ( وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) فاجرة؟ تريد أن الولد يكون من نكاح أو سفاح, ولم يكن هنا واحد منهما.

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ( 21 ) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( 22 )

( قَالَ ) جبريل: ( كَذَلِكِ ) قيل: معناه كما قلت يا مريم ولكن, ( قَالَ رَبُّكَ ) وقيل هكذا قال ربك, ( هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) أي: خلق ولد بلا أب, ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً ) علامة, ( لِلنَّاسِ ) ودلالة على قدرتنا, ( وَرَحْمَةً مِنَّا ) ونعمة لمن تبعه على دينه, ( وَكَانَ ) ذلك, ( أَمْرًا مَقْضِيًّا ) محكوما مفروغا عنه لا يرد ولا يبدل. قوله عز وجل: ( فَحَمَلَتْهُ ) قيل: إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست.

وقيل: مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب.

وقيل: نفخ في كم قميصها. وقيل: في فيها.

وقيل: نفخ جبريل عليه السلام نفخا من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى في الحال ( فَانْتَبَذَتْ بِهِ ) أي تنحت بالحمل وانفردت, ( مَكَانًا قَصِيًّا ) بعيدا من أهلها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: أقصى الوادي, وهو وادي بيت لحم, فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.

واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة.

وقيل: كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء.

وقيل: كان مدة حملها ثمانية أشهر, وكان ذلك آية أخرى لأنه لا يعيش ولد يولد لثمانية أشهر, وولد عيسى لهذه المدة وعاش.

وقيل: ولدت لستة أشهر.

وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة, وصور في ساعة, ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها, وهي بنت عشر سنين وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ( 23 )

( فَأَجَاءَهَا ) أي ألجأها وجاء بها, ( الْمَخَاضُ ) وهو وجع الولادة, ( إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) وكانت نخلة يابسة في الصحراء, في شدة الشتاء, لم يكن لها سعف.

وقيل: التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة, ( قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ) تمنت الموت استحياء من الناس وخوف الفضيحة, ( وَكُنْتُ نَسْيًا ) قرأ حمزة وحفص ( نَسْيًا ) بفتح النون, [ والباقون بكسرها ] وهما لغتان, مثل: الوَتر والوِتر, والجسر والجَسر, وهو الشيء المنسي « و » النسي « في اللغة: كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته. »

( مَنْسِيًّا ) أي: متروكا قال قتادة: شيء لا يعرف ولا يذكر. قال عكرمة والضحاك ومجاهد: جيفة ملقاة. وقيل: تعني لم أخلق.

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 )

( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قرأ أبو جعفر ونافع وحمزة والكسائي وحفص: ( مِنْ تَحْتِهَا ) بكسر الميم والتاء, يعني جبريل عليه السلام, وكانت مريم على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها فناداها.

وقرأ الآخرون بفتح الميم والتاء, وأراد جبريل عليه السلام أيضا, ناداها من سفح الجبل.

وقيل: هو عيسى لما خرج من بطن أمه ناداها: ( أَلا تَحْزَنِي ) وهو قول مجاهد والحسن .

والأول قول ابن عباس رضي الله عنهما والسدي وقتادة والضحاك وجماعة: أن المنادي كان جبريل لما سمع كلامها وعرف جزعها ناداها ألا تحزني.

( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) و « السري » : النهر الصغير.

وقيل: تحتك أي جعله الله تحت أمرك إن أمرتيه أن يجري جرى, وإن أمرتيه بالإمساك أمسك.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب جبريل عليه السلام - ويقال: ضرب عيسى عليه الصلاة والسلام- برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى .

وقيل: كان هناك نهر يابس أجرى الله سبحانه وتعالى فيه الماء وحييت النخلة اليابسة, فأورقت وأثمرت وأرطبت.

وقال الحسن: « تحتك سريا » يعني: عيسى وكان والله عبدا سريا, يعني: رفيعا .

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 )

( وَهُزِّي إِلَيْكِ ) يعني قيل لمريم: حركي ( بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) تقول العرب: هزه وهز به, كما يقول: حز رأسه وحز برأسه, وأمدد الحبل وأمدد به, ( تُسَاقِطْ عَلَيْكِ ) القراءة المعروفة بفتح التاء والقاف وتشديد السين, أي: تتساقط, فأدغمت إحدى التاءين في السين أي: تسقط عليك النخلة رطبا, وخفف حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره.

وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيف على وزن تفاعل. وتساقط بمعنى أسقط, والتأنيث لأجل النخلة.

وقرأ يعقوب: « يساقط » بالياء مشددة ردة إلى الجذع.

( رُطَبًا جَنِيًّا ) مجنيا. وقيل: الجني هو الذي بلغ الغاية, وجاء أوان اجتنائه. قال الربيع بن خثيم: ما للنفساء عندي خير من الرطب, ولا للمريض خير من العسل .