فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ( 88 ) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ( 89 ) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( 90 ) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ( 91 )

( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) أي: تركه موسى هاهنا, وذهب يطلبه. وقيل: أخطأ الطريق وضل . قال الله تعالى: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا ) أي: لا يرون أن العجل لا يكلمهم ولايجيبهم إذا دعوه, ( وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) وقيل: إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له: ما هذا؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي, فقال هارون: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه, فألقى التراب في فم العجل وقال كن عجلا يخور فكان كذلك بدعوة هارون .

والحقيقة أن ذلك كان فتنة ابتلى الله بها بني إسرائيل. ( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ ) من قبل رجوع موسى, ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ) ابتليتم بالعجل, ( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي ) على ديني في عبادة الله, ( وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) في ترك عبادة العجل. ( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ ) أي لن نـزال, ( عَلَيْهِ ) على عبادته, ( عَاكِفِينَ ) مقيمين, ( حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل, فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل, قال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة, فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله.

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( 92 ) أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( 93 ) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( 94 ) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( 95 ) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ( 96 )

( قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ) أشركوا . ( أَلا تَتَّبِعَنِي ) أي: أن تتبعني و « لا » صلة أي تتبع أمري ووصيتي, يعني: هلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم.

وقيل: « أن لا تتبعني » أي: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم, فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه, ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) أي خالفت أمري. ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) أي بشعر رأسي وكان قد أخذ ذوائبه, ( إِنِّي خَشِيتُ ) لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا, ( أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي خشيت إن فارقتهم واتبعتك صاروا أحزابا يتقاتلون, فتقول أنت فرقت بين بني إسرائيل ( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي, وأصلح أي ارفق بهم ثم أقبل موسى على السامري ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ) ما أمرك وشأنك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ ( يَا سَامِرِيُّ ) ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا.

قرأ حمزة والكسائي: « ما لم تبصروا » بالتاء على الخطاب, وقرأ الآخرون بالياء على الخبر.

( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) أي من تراب أثر فرس جبريل, ( فَنَبَذْتُهَا ) أي ألقيتها في فم العجل.

وقال بعضهم: إنما خار لهذا لأن التراب كان مأخوذا من تحت حافر فرس جبريل.

فإن قيل: كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس؟ .

قيل: لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذرا عليه, فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة .

( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ ) أي زينت ( لِي نَفْسِي )

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( 97 )

( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ ) أي: ما دمت حيا, ( أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ ) أي: لا تخالط أحدا, ولا يخالطك أحد, وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه, ولا يقربوه.

قال ابن عباس: لا مساس لك ولولدك, و « المساس » من المماسة, معناه: لا يمس بعضنا بعضا, فصار السامري يهيم في البرية مع الوحوش والسباع, لا يمس أحدا ولا يمسه أحد, عاقبه الله بذلك, وكان إذا لقي أحدا يقول: « لا مساس » , أي: لا تقربني ولا تمسني.

وقيل: كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك, وإذا مس أحد من غيرهم أحدا منهم حما جميعا في الوقت .

( وَإِنَّ لَكَ ) يا سامري, ( مَوْعِدًا ) لعذابك, ( لَنْ تُخْلَفَهُ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ( لَنْ تُخْلَفَهُ ) بكسر اللام أي لن تغيب عنه, ولا مذهب لك عنه, بل توافيه يوم القيامة, وقرأ الآخرون بفتح اللام أي لن تكذبه ولن يخلفك الله, ومعناه: أن الله تعالى يكافئك على فعلك ولا تفوته .

( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ) بزعمك, ( الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) أي ظلت ودمت عليه مقيما تعبده, والعرب تقول: ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت, ومستُ بمعنى مسست.

( لَنُحَرِّقَنَّهُ ) بالنار, قرأ أبو جعفر بالتخفيف من الإحراق, ( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ ) لنذرينه, ( فِي الْيَمِّ ) في البحر, ( نَسْفًا ) روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم, لأنه كان قد صار لحما ودما ثم حرقه بالنار, ثم ذراه في اليم, قرأ ابن محيصن: « لنحرقنه » بفتح النون وضم الراء لنبردنه بالمبرد, ومنه قيل للمبرد المحرق. وقال السدي: أخذ موسى العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد, ثم ذراه في اليم.

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( 98 )

( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) وسع علمه كل شيء.