قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( 126 ) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( 127 )

( قَالَ كَذَلِكَ ) أي كما ( أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) فتركتها وأعرضت عنها, ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) تترك في النار. قال قتادة: نسوا من الخير ولم ينسوا من العذاب. ( وَكَذَلِكَ ) أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك ( نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ) أشرك, ( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ ) مما يعذبهم به في الدنيا والقبر, ( وَأَبْقَى ) وأدوم.

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ( 128 ) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ( 129 ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( 130 )

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) يبين لهم القرآن, يعني: كفار مكة, ( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) ديارهم ومنازلهم إذا سافروا. والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) لذوي العقول. ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) فيه تقديم وتأخير, تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى, والكلمة الحكم بتأخير العذاب عنهم, أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان لزاما, أي لكان العذاب لازما لهم كما لزم القرون الماضية الكافرة. ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) نسختها آية القتال ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) , أي صل بأمر ربك. وقيل: صل لله بالحمد له والثناء عليه, ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) يعني صلاة الصبح, ( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) صلاة العصر, ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) ساعاتها واحدها إنى, ( فَسَبِّحْ ) يعني صلاة المغرب والعشاء. قال ابن عباس: يريد أول الليل, ( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) يعني صلاة الظهر, وسمى وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال, وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء.

وقيل: المراد من آناء الليل صلاة العشاء, ومن أطراف النهار صلاة الظهر والمغرب, لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار, وفي أول الطرف الآخر, فهو في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس, وعند ذلك يصلي المغرب.

( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) أي ترضى ثوابه في المعاد, وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم « ترضى » بضم التاء أي تعطى ثوابه. وقيل: ( تَرْضَى ) أي يرضاك الله تعالى, كما قال: وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ( مريم: 55 ) وقيل: معنى الآية لعلك ترضى بالشفاعة, كما قال: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى:5 ) .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الخطيب الحميدي, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني إملاء, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله السعدي, أخبرنا يزيد بن هارون, أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم, عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: « إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا » , ثم قرأ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) .

وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( 131 )

قوله تعالى: ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) قال أبو رافع: نـزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي: « قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب » فأتيته فقلت له ذلك فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فقال: « والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض, اذهب بدرعي الحديد إليه » فنـزلت هذه الآية: ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) لا تنظر, ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ ) أعطينا, ( أَزْوَاجًا ) أصنافا, ( مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي زينتها وبهجتها, وقرأ يعقوب زهرة بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها, ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا, ( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) في المعاد, يعني: الجنة, ( خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قال أبي بن كعب: من لم يتعز بعز الله تقطعت نفسه حسرات, ومن يتبع بصره فيما في أيد الناس بطل حزنه, ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( 132 ) وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ( 133 ) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ( 134 )

( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) أي قومك. وقيل: من كان على دينك, كقوله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ ( مريم : 55 ) , ( وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) أي اصبر على الصلاة, فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

( لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا, ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك عملا ( نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ ) الخاتمة الجميلة المحمودة, ( لِلتَّقْوَى ) أي لأهل التقوى. قال ابن عباس: الذين صدقوك واتبعوك واتقوني.

وفي بعض المسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: « كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية . قوله تعالى: ( وَقَالُوا ) يعني المشركين, ( لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) أي الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة, ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ) قرأ أهل المدينة والبصرة وحفص عن عاصم: » تأتهم « لتأنيث البينة, وقرأ الآخرون بالياء لتقدم الفعل, ولأن البينة هي البيان فرد إلى المعنى, ( بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) أي بيان ما فيها, وهو القرآن أقوى دلالة وأوضح آية. »

وقيل: أو لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى: التوراة, والإنجيل, وغيرهما من أنباء الأمم أنهم اقترحوا الآيات, فلما أتتهم ولم يؤمنوا بها, كيف عجلنا لهم العذاب والهلاك, فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك. ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ ) من قبل إرسال الرسول وإنـزال القرآن, ( لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا ) هلا ( أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ) يدعونا, أي: لقالوا يوم القيامة, ( فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) بالعذاب, والذل, والهوان, والخزي, والافتضاح.

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ( 135 )

( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ) منتظر دوائر الزمان, وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر, فإذا مات تخلصنا, قال الله تعالى: ( فَتَرَبَّصُوا ) فانتظروا, ( فَسَتَعْلَمُونَ ) إذا جاء أمر الله وقامت القيامة, ( مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ) المستقيم, ( وَمَنِ اهْتَدَى ) من الضلالة نحن أم أنتم؟.