وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 91 ) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( 92 )

( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) حفظت من الحرام, وأراد مريم بنت عمران, ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) أي أمرنا جبرائيل حتى نفخ في جيب درعها, وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها, وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى عليه السلام, ( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب, ولم يقل آيتين وهما آيتان لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية ولأن الآية كانت فيهما واحدة, وهي أنها أتت به من غير فحل. قوله عز وجل : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ) أي ملتكم ودينكم, ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) أي دينا واحدا وهو الإسلام, فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان, وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد, ونصب أمة على القطع. ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ( 93 ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( 94 ) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 95 ) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ( 96 )

( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا, قال الكلبي: [ فرقوا دينهم بينهم ] يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض, والتقطع هاهنا بمعنى التقطيع, ( كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) فنجزيهم بأعمالهم. ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ) لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه, ( وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) لعمله حافظون, وقيل: معنى الشكر من الله المجازاة. ( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: « وحرم » بكسر الحاء بلا ألف, وقرأ الباقون بالألف « حرام » وهما لغتان مثل حل وحلال.

قال ابن عباس: معنى الآية وحرام على قرية أي أهل قرية, ( أَهْلَكْنَاهَا ) أن يرجعوا بعد الهلاك, فعلى هذا تكون « لا » صلة, وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب, فعلى هذا تكون « لا » ثابتا معناه واجب على أهل قرية أهلكناهم ( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) إلى الدنيا.

وقال الزجاج: معناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أي حكمنا بهلاكهم أن تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والدليل على هذا المعنى أنه قال في الآية التي قبلها: ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) أي يتقبل عمله, ثم ذكر هذه الآية عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله. قوله عز وجل: ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب: « فتحت » بالتشديد على التكثير, وقرأ الآخرون بالتخفيف, ( يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) يريد فتح السد عن يأجوج ومأجوج, ( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ ) أي نشز وتل, والحدب المكان المرتفع, ( يَنْسِلُونَ ) يسرعون النـزول من الآكام والتلال كنسلان الذئب, وهو سرعة مشيه, واختلفوا في هذه الكناية, فقال قوم: عني بهم يأجوج ومأجوج بدليل ما روينا عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون » وقال قوم: أراد جميع الخلق يعني أنهم يخرجون من قبورهم, ويدل عليه قراءة مجاهد وهم من كل جدث بالجيم والثاء كما قال: فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( يونس: 51 ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني, أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, أخبرنا مسلم بن حجاج, أخبرنا أبو خيثمة زهير بن حرب, أخبرنا سفيان بن عيينة, عن فرات القزاز, عن أبي الطفيل, عن حذيفة بن أسيد الغفاري, قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر, فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: « إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات, فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونـزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج, وثلاثة خسوف: خسف بالمغرف وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب, وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم » .

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( 97 )

قوله عز وجل: ( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) يعني القيامة, قال الفراء وجماعة: الواو في قوله واقترب [ مقحمة فمعناه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب ] الوعد الحق, كما قال الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ ( الصافات: 103 - 104 ) أي ناديناه, والدليل عليه ما روي عن حذيفة قال: لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة وقال قوم: لا يجوز طرح الواو, وجعلوا جواب حتى إذا فتحت في قوله يا ويلنا, فيكون مجاز الآية. حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق, قالوا: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا قوله: ( فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وفي قوله « هي » ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها كناية عن الأبصار. ثم أظهر الأبصار بيانا, معناه فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا.

والثاني: أن « هي » تكون عمادا كقوله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ ( الحج:46 ) .

والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: « هي » , على معنى فإذا هي بارزة يعني من قربها كأنها حاضرة, ثم ابتدأ: ( شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) على تقديم الخبر على الابتداء, مجازها أبصار الذين كفروا شاخصة. قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله, يقولون, ( يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) اليوم, ( بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) بوضعنا العبادة في غير موضعها.

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( 98 ) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ( 99 ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ( 100 ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( 101 )

( إِنَّكُمْ ) أيها المشركون ( وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يعني الأصنام, ( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) أي وقودها. وقال مجاهد وقتادة: حطبها, والحصب في لغة أهل اليمن: الحطب. وقال عكرمة: هو الحطب بلغة الحبشة. قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء. وأصل الحصب الرمي, قال الله عز وجل: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ( القمر: 34 ) أي ريحا ترميهم بحجارة, وقرأ علي بن أبي طالب: حطب جهنم, ( أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) أي فيها داخلون. ( لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ ) يعني الأصنام, ( آلِهَةً ) على الحقيقة, ( مَا وَرَدُوهَا ) أي ما دخل عابدوها النار, ( وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) يعني العابد والمعبودين. ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) قال ابن مسعود: في هذه الآية إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار, ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى [ ثم تلك التوابيت في توابيت أخر ] عليها مسامير من نار, فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره, ثم استثنى فقال:. ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) قال بعض أهل العلم: إن هاهنا بمعنى: إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى, يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة, ( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) قيل: الآية عامة في كل من سبقت لهم من الله السعادة. وقال أكثر المفسرين: عني بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث, فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه: ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآيات الثلاثة, ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته, فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري: أنت قلت: « إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » ؟ قال: نعم, قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح, وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشياطين فأنـزل الله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) يعني عزيرا والمسيح والملائكة, ( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) وأنـزل في ابن الزبعري: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف: 58 ) , وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام, لأن الله تعالى قال: ( وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ولو أراد به الملائكة والناس لقال ومن تعبدون من دون الله .