وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ( 16 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 17 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ( 18 )

( وَكَذَلِكَ ) أي: مثل ذلك, يعني: ما تقدم من آيات القرآن, ( أَنـزلْنَاهُ ) يعني: القرآن ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) يعني: عبدة الأوثان,, ( إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) يحكم بينهم, ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( أَلَمْ تَرَ ) ألم تعلم, وقيل: ( أَلَمْ تَرَ ) [ تقرأ ] بقلبك ( أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ) قال مجاهد: سجودها تحول ظلالها. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له, فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل: سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع له مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت: 11 ) , وقال في وصف الحجارة وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ( البقرة: 74 ) , وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء: 44 ) , وهذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة.

قوله: ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) أي: من هذه الأشياء كلها تسبح الله عز وجل « وكثير من الناس » , يعني المسلمين. ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل. والواو في قوله: ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) واو الاستئناف.

( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ ) أي: يهنه الله ( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) أي: من يذله الله فلا يكرمه أحد, ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) أي: يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته.

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( 19 )

قوله عز وجل : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) أي: جادلوا في دينه وأمره, والخصم اسم شبيه بالمصدر, فلذلك قال: ( اخْتَصَمُوا ) بلفظ الجمع كقوله: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( ص:21 ) , واختلفوا في هذين الخصمين:

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, أخبرنا أبو هاشم, عن أبي مجلز, عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) نـزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي, وعبيدة بن الحارث, وعتبة, وشيبة ابني أبي ربيعة, والوليد بن عتبة .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا حجاج بن منهال, حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: سمعت أبي قال أخبرنا أبو مجلز, عن قيس بن عباد, عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة, قال قيس: وفيهم نـزلت: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة, وعبيدة, وشيبة بن ربيعة, وعتبة بن ربيعة, والوليد بن عتبة .

قال محمد بن إسحاق خرج - يعني يوم بدر - عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة: عوذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء, وعبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار, فقالوا حين انتسبوا: أكفاء كرام, ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب, فلما دنوا قالوا من أنتم؟ فذكروا وقالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة, وبارز حمزة شيبة, وبارز علي الوليد بن عتبة, فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة, وعلي الوليد, واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما [ أثبت ] صاحبه, فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه, وقد قطعت رجله ومخها يسيل, فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله؟ قال: « بلى » , فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول:

ونســلمه حــتى نصــرع حولـه ونــذهل عــن أبنائنـا والحـلائل

وقال ابن عباس وقتادة: نـزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا, ونبينا قبل نبيكم, وقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنـزل الله من كتاب, وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا, فهذه خصومتهم في ربهم .

وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا .

وقال بعضهم: جعل الأديان ستة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ( المائدة: 69 ) الآية, فجعل خمسة للنار وواحدا للجنة, فقوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم.

وقال عكرمة: هما الجنة والنار اختصمتا كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي, أخبرنا أبو بكر محمد حسين القطان, أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن همام بن منبه, قال: حدثنا أبو هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين, وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟ قال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي, ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط, فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض, ولا يظلم الله من خلقه أحدا, وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا » . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال:

( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب, وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب.

وقال بعضهم: يلبس أهل النار مقطعات من النار, ( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) الحميم: هو الماء الحار الذي انتهت حرارته.

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( 20 )

( يُصْهَرُ بِهِ ) أي: يذاب بالحميم, ( مَا فِي بُطُونِهِمْ ) يقال: صهرت الإلية والشحم بالنار إذا أذبتهما أصهرها صهرا, معناه يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم حتى يسقط ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء, ( وَالْجُلُودُ ) أي: يشوي حرها جلودهم فتتساط.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, أخبرنا عبد الله بن المبارك, عن سعيد بن زيد, عن أبي السمح, عن أبي جحيرة واسمه عبد الرحمن, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه, وهو الصهر, ثم يعاد كما كان » .

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ( 21 ) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 22 ) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 23 )

قوله تعالى: ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) سياط من حديد واحدتها: مقمعة, قال الليث: المقمعة شبه الجزر من الحديد, من قولهم: قمعت رأسه, إذا ضربته ضربا عنيفا, وفي الخبر: « لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض » . ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ ) أي: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم ( أُعِيدُوا فِيهَا ) أي: ردوا إليها بالمقامع. وفي التفسير: إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع من الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا. ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) أي: تقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق, أي: المحرق, مثل الأليم والوجيع.

قال الزجاج: هؤلاء أحد الخصمين. وقال في الآخر, وهم المؤمنون: ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) جمع سوار, ( وَلُؤْلُؤًا ) قرأ أهل المدينة وعاصم « ولؤلؤا » هاهنا وفي سورة الملائكة بالنصب وافق يعقوب هاهنا على معنى ويحلون لؤلؤا, ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف, وقرأ الآخرون بالخفض عطفا على قوله: « من ذهب » , ويترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو جعفر وأبو بكر, واختلفوا في وجه إثبات الألف, فيه, فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في: قالوا وكانوا, وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة, لأن الهمزة حرف من الحروف ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) أي: يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح, أخبرنا أبو القاسم البغوي, أخبرنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة, عن قتادة, عن داود السراج, عن أبي سعيد الخدري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه الله إياه في الآخرة, فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو » .