وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ( 47 )

( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) نـزلت في النضر بن الحارث حيث قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) فأنجز ذلك يوم بدر. ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: « يعدون » بالياء هاهنا لقوله: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ) وقرأ الباقون: بالتاء لأنه أعم, لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين, واتفقوا في تنـزيل « السجدة » أنه بالتاء.

قال ابن عباس: يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.

وقال مجاهد وعكرمة: يوما من أيام الآخرة, والدليل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة, تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم, وذلك مقدار خمسمائة سنة » .

قال ابن زيد: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » هذه أيام الآخرة. وقوله: « كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون » يوم القيامة. والمعنى على هذا: أنهم يستعجلون بالعذاب, وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة.

وقيل: معناه وإن يوما من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون, فكيف تستعجلونه؟ هذا كما يقال: أيام الهموم طوال, وأيام السرور قصار.

وقيل: معناه إن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء, لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير, فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره, وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 48 ) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 49 ) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 50 ) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 51 )

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ) أي أمهلتها, ( وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) . ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) . ( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الرزق الكريم الذي لا ينقطع أبدا. وقيل: هو الجنة. ( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا ) أي عملوا في إبطال آياتنا, ( مُعَاجِزِينَ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: « معجزين » بالتشديد هاهنا وفي سورة سبأ أي: مثبطين الناس عن الإيمان, وقرأ الآخرون: « معاجزين » بالألف أي معاندين مشاقين. وقال قتادة: معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار, ومعنى يعجزوننا, أي: يفوتوننا فلا نقدر عليهم. وهذا كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ( العنكبوت: 4 ) , ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) وقيل: « معاجزين » مغالبين, يريد كل واحد أن يظهر عجز صاحبه.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 52 )

قوله عز وجل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم, فكان يوما في مجلس قريش فأنـزل الله تعالى سورة « النجم » فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه: « تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى » , فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته, فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده, وسجد جميع من في المسجد من المشركين, فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص, فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها, لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر, وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده, فإذا جعل لها نصيبا فنحن معه, فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنـزل الله هذه الآية يعزيه, وكان به رحيما, وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم, وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا, فلما نـزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منـزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك. وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه, وشدة على من أسلم.

قال الله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا, ( وَلا نَبِيٍّ ) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما, وكل رسول نبي, وليس كل نبي رسولا ( إِلا إِذَا تَمَنَّى ) قال بعضهم: أي: أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به. ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي مراده.

وعن ابن عباس قال: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه, فينسخ الله ما يلقي الشيطان.

وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله:

( تمنى ) أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى. « ألقى الشيطان في أمنيته » أي: في تلاوته, قال الشاعر في عثمان حين قتل: تمنــى كتــاب اللــه أول ليلــة وآخرهــا لاقــى حمـام المقـادر

واختلفوا في أنه كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوما من الغلط في أصل الدين, وقال جل ذكره في القرآن: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت: 42 ) يعني إبليس؟

قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه, فقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ, ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته, فظن المشركون أن الرسول قرأه.

وقال قتادة: أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.

والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.

وقيل: إن شيطانا يقال له أبيض عمل هذا العمل, وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء .

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 53 ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 54 )

فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ أي: يبطله ويذهبه, ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ فيثبتها, وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي: محنة وبلية, شك ونفاق, ( وَالْقَاسِيَةِ ) يعني الجافية, ( قُلُوبُهُمْ ) عن قبول الحق وهم المشركون, وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك, ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا, وظنوا أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل, ( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ) المشركين ( لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أي: في خلاف شديد. ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) التوحيد والقرآن. وقال السدي: التصديق بنسخ الله تعالى, ( أَنَّهُ ) يعني: أن الذي أحكم الله من آيات القرآن هو ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ) أي: يعتقدوا أنه من الله, ( فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ) أي: فتسكن إليه قلوبهم, ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي: طريق قويم هو الإسلام.

وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ( 55 )

( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) أي: في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها. وقال ابن جريج: « منه » أي من القرآن. وقيل: من الدين, وهو الصراط المستقيم. ( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) يعني: القيامة. وقيل: الموت, ( أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال الضحاك وعكرمة: عذاب يوم لا ليلة له, وهو يوم القيامة.

والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر, لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة. وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير, كالريح العقيم التي لا تأتي بخير, سحاب ولا مطر, [ والعقم في اللغة: المنع, يقال: رجل عقيم إذا منع من الولد ] . وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وقال ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء.