كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 216 )

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ) أي فرض عليكم الجهاد، واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال عطاء: الجهاد تطوع، والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم، وإليه ذهب الثوري واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( 95- النساء ) ولو كان القاعد تاركا فرضا لم يكن يعده الحسنى، وجرى بعضهم على ظاهر الآية، وقال: الجهاد فرض على كافة المسلمين إلى قيام الساعة.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي الخوارزمي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبيّ الفراتي أخبرنا أبو الهيثم بن كليب أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا سعيد بن عثمان السعيدي عن عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق » .

وقال قوم، وعليه الجمهور: إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين مثل صلاة الجنازة ورد السلام، قال الزهري والأوزاعي: كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعودا، فمن غزا فبها ونعمت ومن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد.

قوله تعالى: ( وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) أي شاق عليكم قال بعض أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه، من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح، لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى، وقال عكرمة، نسخها قوله تعالى: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه فقالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . قال الله تعالى: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) لأن في الغزو إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة ( وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا ) يعني القعود عن الغزو ( وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ) لما فيه من فوات الغنيمة والأجر ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 217 )

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) سبب نـزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال له: « سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نـزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك » فسار عبد الله يومين ثم نـزل وفتح الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنـزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخير، فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك، وقال إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع، ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نـزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف.

فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم، فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة فوق ثم أشرفوا عليهم فقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم، فأمنوهم، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين [ وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش. قال مجاهد وغيره لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد، وادع أهل مكة سنتين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه ]

واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الحرائب وعير بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه!

وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السرية، وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم، وقالوا: يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك، فأنـزل الله تعالى هذه الآية، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسم الباقي بين أصحاب السرية، وكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال « بل نقفهم حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما » فلما قدما فاداهما، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله، فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية، فهذا سبب نـزول هذه الآية

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ) يعني رجبا سمي بذلك لتحريم القتال فيه.

( قِتَالٍ فِيهِ ) أي عن قتال فيه ( قُلْ ) يا محمد ( قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) عظيم، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال ( وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي فصدكم المسلمين عن الإسلام ( وَكُفْرٌ بِهِ ) أي كفركم بالله ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي المسجد الحرام وقيل وصدكم عن المسجد الحرام ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ) أي إخراج أهل المسجد ( مِنْهُ أَكْبَرُ ) وأعظم وزرا ( عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ ) أي الشرك الذي أنتم عليه ( أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) أي من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فلما نـزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام، ثم قال: ( وَلا يَزَالُونَ ) يعني مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له مثل عسى ( يُقَاتِلُونَكُم ) يا معشر المؤمنين ( حَتَّى يَرُدُّوكُمْ ) يصرفوكم ( عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ ) جزم بالنسق ( وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ ) بطلت ( أَعْمَالُهُم ) حسناتهم ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 218 )

قال أصحاب السرية يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا، وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا؟ فأنـزل الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ) فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم ( وَجَاهَدُوا ) المشركين ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) طاعة لله، فجعلها جهادا، ( أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ) أخبر أنهم على رجاء الرحمة ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) الآية، نـزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فأنـزل الله هذه الآية .

وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون أن الله أنـزل في الخمر أربع آيات نـزلت بمكة وهي: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ( 67- النحل ) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ، ثم نـزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) فلما نـزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قد تقدم في تحريم الخمر » فتركها قوم لقوله ( إثم كبير ) وشربها قوم لقوله ( ومنافع للناس ) إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ « قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » هكذا إلى آخر السورة بحذف « لا » فأنـزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ( 43- النساء ) فحرم السكر في أوقات الصلاة، فلما نـزلت هذه الآية تركها قوم، وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير حين الصلاة، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحوا إذا جاء وقت الظهر، واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك ( وانتسبوا ) وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا، فأنـزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة: إلى قوله ( فهل أنتم منتهون ) .

وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله عنه انتهينا يا رب، قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيئا أشد من الخمر .

[ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما نـزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر فخرجنا بالحباب إلى الطريق فصببنا ما فيها فمنا كسر صبه ومنا من غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حينا فلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها ] .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم أخبرنا ابن علية أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال: قال لي أنس بن مالك ما كان لنا خمر غير فضيخكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال: حرمت الخمر. فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل .

عن أنس: سميت خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتي تختمر وتتغير، وعن ابن المسيب: لأنها تركت حتى صفا صفوها، ورسب كدرها، واختلف الفقهاء في ماهية الخمر، فقال قوم: هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربه ويفسق ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيد إلا أن يسكر منه فيحرم، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.

ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث.

وقال قوم: إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالا وهو قول إسماعيل بن عليه.

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر فقليله حرام يحد شاربه.

واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: « كل شراب أسكر فهو حرام »

أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما أسكر كثيره فقليله حرام » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي أخبرنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أحمد بن أبي رجاء أنا يحيى، بن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنه قد نـزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر، والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل » وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا » فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال إني وجدت من فلان ريح شراب، وزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاما ، وما روي عن عمر وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو فيما طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكرا. وسئل ابن عباس عن الباذق فقال سبق محمد الباذق فما أسكر فهو حرام.

قوله تعالى: ( وَالْمَيْسِرِ ) يعني القمار، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنـزل الله تعالى هذه الآية، والميسر: مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب ييسر يسرا وميسرا، ثم قيل للقمار ميسر وللمقامر ياسر ويسر، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزورا فينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام، لسبعة منها أنصباء وهي: الفذ وله نصيب واحد، والتوأم وله نصيبان، والرقيب وله ثلاثة أسهم، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة منها: لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المجيل والمفيض، ثم يجيلها ويخرج قدحا منها باسم رجل منهم، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان لا يأخذ شيئا ويغرم ثمن الجزور كله.

وقال بعضهم كان لا يأخذ شيئا ولا يغرم ويكون ذلك القدح لغوا ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب. والمراد من الآية أنواع القمار كلها، قال طاووس وعطاء ومجاهد: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر.

قوله تعالى: ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91- المائدة ) ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به. والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء.

( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) قال الضحاك وغيره: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل 35/أ التحريم، وقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق؟ فقال ( قُلِ الْعَفْوَ ) قرأ أبو عمرو العفو بالرفع، معناه: الذي ينفقون هو العفو. وقرأ الآخرون بالنصب، على معنى قل: أنفقوا العفو.

واختلفوا في معنى العفو، فقال قتادة وعطاء والسدي: هو ما فضل عن الحاجة، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية، ثم نسخ بآية الزكاة. وقال مجاهد: معناه: التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلا على الناس.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول » وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ( 67- الفرقان ) وقال طاووس: ما يسر، والعفو: اليسر من كل شيء ( ومنه قوله تعالى ) خُذِ الْعَفْوَ ( 199- الأعراف ) أي الميسور من أخلاق الناس.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال صلى الله عليه وسلم: « أنفقه على نفسك » قال: عندي آخر قال: « أنفقه على ولدك » قال: عندي آخر قال: « أنفقه على أهلك » قال: عندي آخر قال: « أنفقه على خادمك » قال: عندي آخر قال: « أنت أعلم » .

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) قال الزجاج: إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال: كذلك أيها القبيل، وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأن خطابه يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ( 1- الطلاق ) .

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قيل: معناه يبين الله لكم الآيات في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى، وقال أكثر المفسرين: معناها هكذا: يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، ( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها.