سورة المؤمنون

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1 ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( 2 )

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري, أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي, أخبرنا محمد بن حماد, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا يونس بن سليمان, أملى علي يونس صاحب أيلة, عن ابن شهاب, عن عروة بن الزبير, عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل, فمكثنا ساعة - وفي رواية: فنـزل علينا يوما فمكثنا ساعة - فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: « اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا, ثم قال: لقد أنـزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة » , ثم قرأ ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إلى عشر آيات.

ورواه أحمد بن حنبل, وعلي ابن المديني, وجماعة عن عبد الرزاق, وقالوا: « وأعطنا ولا تحرمنا وأرضنا وارض عنا » .

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) « قد » حرف تأكيد, وقال المحققون: « قد » تقرب الماضي من الحال, يدل على أن الفلاح قد حصل لهم, وأنهم عليه في الحال, وهو أبلغ من تجريد ذكر الفعل, « والفلاح » النجاة والبقاء, قال ابن عباس: قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة. ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) اختلفوا في معنى الخشوع, فقال ابن عباس: مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة: خائفون. وقال مقاتل: متواضعون. وقال مجاهد: هو غض البصر وخفض الصوت.

والخشوع قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن, والخشوع في القلب والبدن والبصر والصوت, قال الله عز وجل: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ( طه - 108 ) .

وعن علي رضي الله عنه: هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا. وقال سعيد بن جبير: هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره, ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, حدثنا مسدد, أخبرنا أبو الأحوص, أخبرنا أشعث بن سليم, عن أبيه, عن مسروق, عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: « هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد » .

وأخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي ببغداد, أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي, أخبرنا عبد الغفار بن عبيد الله, أخبرنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري, عن أبي الأحوص, عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يزال الله مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه » .

وقال عمرو بن دينار: هو السكون وحسن الهيئة. وقال ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.

وقال أبو هريرة: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نـزل: ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود.

أخبرنا عبد الواحد المليحي , أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا علي بن عبد الله, أخبرنا يحيى بن سعيد, أخبرنا ابن أبي عروبة, أخبرنا قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم » , فاشتد قوله في ذلك حتى قال: « لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم » .

وقال عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » .

أخبرنا أبو عثمان الضبي, أخبرنا أبو محمد الجراحي, أخبرنا أبو العباس المحبوبي, أخبرنا أبو عيسى الترمذي, أخبرنا سعيد, عن عبد الرحمن المخزومي, أخبرنا سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن أبي الأحوص, عن أبي ذر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه » .

وقيل: الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة, والإعراض عما سواها, والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( 3 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( 4 )

قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال عطاء عن ابن عباس: عن الشرك, وقال الحسن: عن المعاصي. وقال الزجاج: عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل. وقيل: هو معارضة الكفار بالشتم والسب: قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( الفرقان - 72 ) , أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه. ( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) أي: للزكاة الواجبة مؤدون, فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل. وقيل: الزكاة هاهنا هو العمل الصالح, أي: والذين هم للعمل الصالح فاعلون.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 5 ) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 6 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 7 ) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 9 ) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( 10 )

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) الفرج: اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة, وحفظ الفرج: التعفف عن الحرام. ( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ) أي: من أزواجهم, و « على » بمعنى « من » . ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ( ما ) في محل الخفض, يعني أو ما ملكت أيمانهم, والآية في الرجال خاصة بدليل قوله: « أو ما ملكت أيمانهم » والمرأة لا يجوز أن تستمتع بفرج مملوكها. ( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) يعني يحفظ فرجه إلا من امرأته أو أمته فإنه لا يلام على ذلك, وإنما لا يلام فيهما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي, وفي حال الحيض والنفاس, فإنه محظور وهو على فعله ملوم. ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ) أي: التمس وطلب سوى الأزواج والولائد المملوكة, ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام, وهو قول أكثر العلماء. قال ابن جريج: سألت عطاء عنه فقال: مكروه, سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال: عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. ( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ ) قرأ ابن كثير « لأمانتهم » على التوحيد هاهنا وفي سورة المعارج, لقوله تعالى: « وعهدهم » والباقون بالجمع, كقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( النساء - 58 ) , ( وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) حافظون, أي: يحفظون ما ائتمنوا عليه, والعقود التي عاقدوا الناس عليها, يقومون بالوفاء بها, والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العبد كالصلاة والصيام والعبادات التي أوجبها الله عليه, وتكون بين العبيد كالودائع والصنائع فعلى العبد الوفاء بجميعها. ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ ) قرأ حمزة والكسائي « صلاتهم » على التوحيد, والآخرون صلواتهم على الجمع. ( يُحَافِظُونَ ) أي: يداومون على حفظها ويراعون أوقاتها, كرر ذكر الصلاة ليبين أن المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب. ( أُولَئِكَ ) أهل هذه الصفة, ( هُمُ الْوَارِثُونَ ) يرثون منازل أهل النار من الجنة.

وروي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا وله منـزلان منـزل في الجنة ومنـزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منـزله » وذلك قوله تعالى: ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ )

وقال مجاهد: لكل واحد منـزل في الجنة ومنـزل في النار , فأما المؤمن فيبني منـزله الذي له في الجنة ويهدم منـزله الذي له في النار, وأما الكافر فيهدم منـزله الذي في الجنة ويبني منـزله الذي في النار.

وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنه يئول أمرهم إلى الجنة وينالونها, كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 11 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ( 12 ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 13 )

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) وهو أعلى الجنة قد ذكرناه في سورة الكهف ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لا يموتون ولا يخرجون, وجاء في الحديث: « أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده, وغرس الفردوس بيده, ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر, ولا ديوث » . قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ ) يعني: ولد آدم, و « الإنسان » اسم الجنس, يقع على الواحد والجمع, ( مِنْ سُلالَةٍ ) روي عن ابن عباس أنه قال: السلالة صفوة الماء. وقال مجاهد: من بني آدم. وقال عكرمة: هو يسيل من الظهر, والعرب تسمي النطفة سلالة, والولد سليلا وسلالة, لأنهما مسلولان منه.

قوله: ( مِنْ طِينٍ ) يعني: طين آدم. والسلالة تولدت من طين خلق آدم منه. قال الكلبي: من نطفة سلت من طين, والطين آدم عليه السلام, وقيل المراد من الإنسان هو آدم. وقوله: « من سلالة: أي: سل من كل تربة. ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ) يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة, ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) حريز, وهو الرحم مُكّن [ أي قد هيئ ] لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها. »

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( 14 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ( 15 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( 16 )

( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ) قرأ ابن عامر وأبو بكر « عظما » , ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ ) على التوحيد فيهما, وقرأ الآخرون بالجمع لأن الإنسان ذو عظام كثيرة. وقيل: بين كل خلقين أربعون يوما. ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) أي ألبسنا, ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) اختلف المفسرون فيه, فقال ابن عباس: ومجاهد, والشعبي, وعكرمة, والضحاك, وأبو العالية: هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة: نبات الأسنان والشعر. وروى ابن جريج عن مجاهد: أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال: ذكرا أو أنثى. وروى العوفي عن ابن عباس: أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع, إلى القعود إلى القيام, إلى المشي إلى الفطام, إلى أن يأكل ويشرب, إلى أن يبلغ الحلم, ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها.

( فَتَبَارَكَ اللَّهُ ) أي: استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال. ( أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المصورين والمقدرين. و « الخلق » في اللغة: التقدير. وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين, يقال: رجل خالق أي: صانع.

وقال ابن جريج: إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ ( آل عمران - 49 ) فأخبر الله عن نفسه بأنه أحسن الخالقين . ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) والميت - بالتشديد - والمائت الذي لم يمت بعد وسيموت, والميت - بالتخفيف - : من مات, ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا, كقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( الزمر - 30 ) . ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( 17 )

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ) أي: سبع سموات, سميت طرائق لتطارقها, وهو أن بعضها فوق بعض, يقال: طارقت النعل إذا جعلت بعضه فوق بعض. وقيل: سميت طرائق لأنها طرائق الملائكة. ( وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) أي كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم كما قال الله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ ( الحج - 65 ) .

وقيل: ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي.

وقيل: وما كنا عن الخلق غافلين أي بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب.