مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ
أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( 43 )
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا
كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 44 )
( مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ
أَجَلَهَا ) أي: ما تسبق أمة أجلها أي: وقت هلاكها, ( وَمَا
يَسْتَأْخِرُونَ ) وما يتأخرون عن وقت هلاكهم. ( ثُمَّ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) أي: مترادفين يتبع بعضهم بعضا
غير متواصلين, لأن بين كل نبيين زمانا طويلا وهي فعلى من المواترة, قال الأصمعي:
يقال واترت الخبر أي أتبعت بعضه بعضا, وبين الخبرين [
هنيهة ] .
واختلف القراء فيه, فقرأ أبو
جعفر, وابن كثير, وأبو عمرو: بالتنوين, ويقفون بالألف, ولا يميله أبو عمرو, وفي
الوقف فيها كالألف في قولهم: رأيت زيدا, وقرأ الباقون بلا تنوين, والوقف عندهم
يكون بالياء, ويميله حمزة والكسائي, وهو مثل قولهم: غضبى وسكرى, وهو اسم جمع مثل
شتى, وعلى القراءتين التاء الأولى بدل من الواو, وأصله: « وترى » من
المواترة والتواتر, فجعلت الواو تاء, مثل: التقوى والتكلان.
( كُلَّ
مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا )
بالهلاك, أي: أهلكنا بعضهم في إثر بعض, (
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) أي: سمرا وقصصا, يتحدث من
بعدهم بأمرهم وشأنهم, وهي جمع أحدوثة. وقيل: جمع حديث. قال الأخفش: إنما هو في
الشر, وأما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث وأحدوثة, إنما يقال صار فلان حديثا, (
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ )
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى
وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 45 )
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ( 46 )
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( 47 )
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( 48 ) وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 49 )
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ
قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( 50 )
( ثُمَّ
أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي بحجة
بينة من اليد والعصا. وغيرهما. ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَاسْتَكْبَرُوا ) تعظموا عن الإيمان, (
وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
( فَقَالُوا ) يعني
فرعون وقومه, ( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا ) يعني: موسى وهارون, ( وَقَوْمُهُمَا
لَنَا عَابِدُونَ ) مطيعون متذللون, والعرب تسمي
كل من دان للملك: عابدا له. ( فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا
مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) بالغرق. (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ )
التوراة, ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) أي لكي
يهتدي به قومه. ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً ) دلالة على قدرتنا, ولم يقل
آيتين, قيل: معناه شأنهما آية. وقيل: معناه جعلنا كل واحد منهما آية, كقوله تعالى:
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ( الكهف
- 33 ) . ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ) الربوة المكان المرتفع من الأرض, واختلفت الأقوال فيها,
فقال عبد الله بن سلام: هي دمشق, وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل, وقال الضحاك:
غوطة دمشق. وقال أبو هريرة: هي الرملة. وقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس, وهو
قول قتادة وكعب. وقال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن
زيد: هي مصر. وقال السدي: أرض فلسطين . ( ذَاتِ
قَرَارٍ ) أي: مستوية منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها. (
وَمَعِينٍ ) فالمعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون, مفعول من
عانه يعينه إذا أدركه البصر.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ
كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
( 51 )
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( 52 )
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ ( 53 )
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ( 54 )
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ( 55 )
قوله عز وجل : ( يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ ) قال الحسن ومجاهد وقتادة
والسدي والكلبي وجماعة: أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في
مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة. وقال بعضهم: أراد به عيسى. وقيل: أراد به جميع الرسل
عليهم السلام, ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي
الحلالات, ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) الصلاح
هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة, (
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (
وَإِنَّ هَذِهِ ) قرأ أهل الكوفة: « وإن » بكسر
الألف على الابتداء, وقرأ الباقون بفتح الألف, وخفف ابن عامر النون وجعل « إن » صلة,
مجازة: وهذه ( أُمَّتُكُمْ ) وقرأ
الباقون بتشديد النون على معنى وبأن هذا, تقديره: بأن هذه أمتكم, أي ملتكم
وشريعتكم التي أنتم عليها, ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) أي ملة
واحدة وهي الإسلام, ( وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ ) أي: اتقوني لهذا.
وقيل: معناه أمرتكم بما أمرت به
المرسلين من قبلكم, فأمركم واحد, (
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) فاحذرون. وقيل: هو نصب بإضمار
فعل, أي: اعلموا أن هذه أمتكم, أي ملتكم, أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. (
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ ) دينهم, (
بَيْنَهُمْ ) أي: تفرقوا فصاروا فرقا, يهودا ونصارى ومجوسا, (
زُبُرًا ) أي: فرقا وقطعا مختلفة, واحدها زبور وهو الفرقة والطائفة,
ومثله الزبرة وجمعها زبر, ومنه: زُبَرَ الْحَدِيدِ ( الكهف
- 96 ) . أي: صاروا فرقا كزبر الحديد. وقرأ بعض أهل الشام « زبرا » بفتح
الباء, قال قتادة ومجاهد « زبرا » أي:
كتبا, يعني دان كل فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخرون. وقيل: جعلوا كتبهم
قطعا مختلفة, آمنوا بالبعض, وكفروا بالبعض, وحرفوا البعض, ( كُلُّ
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ ) بما عندهم من الدين, (
فَرِحُونَ ) معجبون ومسرورون. (
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ) قال ابن عباس: في كفرهم
وضلالتهم, وقيل: عمايتهم, وقيل: غفلتهم (
حَتَّى حِينٍ ) إلى أن يموتوا. (
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ) ما
نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في الدنيا.
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ( 56 )
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 57 )
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 58 )
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ( 59 )
( نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ ) أي: نجعل لهم في الخيرات, ونقدمها ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا
عنهم, ( بَل لا يَشْعُرُونَ ) أن ذلك
استدراج لهم. ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال: ( إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي:
خائفون, والإشفاق: الخوف, والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من
عقابه, قال الحسن البصري: المؤمن من جمع إحسانا وخشية, والمنافق من جمع إساءة
وأمنا . ( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ )
يصدقون. ( وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) .