يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 21 ) وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 22 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) أي: بالقبائح من الأفعال، ( وَالْمُنْكَر ) ما يكرهه الله عز وجل، ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا ) قال مقاتل: ما صلح. وقال ابن قتيبة: ما طهر، ( مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) والآية على العموم عند بعض المفسرين، قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد. وقال قوم: هذا الخطاب للذين خاضوا في الإفك، ومعناه: ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: ما قبل توبة أحد منكم، ( أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي ) يطهر، ( مَنْ يَشَاءُ ) من الذنب بالرحمة والمغفرة، ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) قوله عز وجل ( وَلا يَأْتَلِ ) أي: ولا يحلف، وهو يفتعل من الألية وهي القسم، وقرأ أبو جعفر: « يتأل » بتقديم التاء وتأخير الهمزة، وهو يتفعل من الألية. ( أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) يعني أبا بكر الصديق ( أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يعني مسطحا، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر، حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) عنهم خوضهم في أمر عائشة، ( أَلا تُحِبُّونَ ) يخاطب أبا بكر، ( أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فلما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنـزعها منه أبدا .

وقال ابن عباس والضحاك: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم، فأنـزل الله هذه الآية .

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 23 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) العفائف، ( الغافلات ) عن الفواحش، ( المؤمنات ) والغافلة عن الفاحشة أي: لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكانت عائشة كذلك، قوله تعالى: ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) عذبوا بالحدود وفي الآخرة بالنار، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قال مقاتل: هذا في عبد الله بن أبي المنافق. روي عن خصيف قال: قلت لسعيد بن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة؟ فقال ذلك لعائشة خاصة .

وقال قوم: هي لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر المؤمنات. روي عن العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة .

وقال الآخرون: نـزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان [ ذلك ] حين نـزلت الآية التي في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنـزل الله الجلد والتوبة .

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( 25 ) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 26 )

( يَوْمَ تَشْهَدُ ) قرأ حمزة والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الآخرون بالتاء، ( عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) وهذا قبل أن يختم على أفواههم، ( وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) يروى أنه ( تختم ) الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا. وقيل: معناه تشهد ألسنة بعضهم على بعض وأيديهم وأرجلهم، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) جزاءهم الواجب. وقيل: حسابهم العدل. ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين. قوله عز وجل: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ) قال أكثر المفسرين: الخبيثات من القول والكلام للخبيثين من الناس. ( وَالْخَبِيثُون ) من الناس، ( لِلْخَبِيثَاتِ ) من القول، [ والكلام ] ، ( وَالطَّيِّبَاتُ ) من القول، ( لِلطَّيِّبِينَ ) من الناس ، ( وَالطَّيِّبُونَ ) من الناس، ( لِلطَّيِّبَاتِ ) من القول، والمعنى: أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس والطيب لا يليق إلا بالطيب من الناس، فعائشة لا يليق بها الخبيثات من القول لأنها طيبة رضي الله عنها فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن [ وما يليق بها ] .

وقال الزجاج: معناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة، ومدح للذين برؤوها بالطهارة.

وقال ابن زيد: معناه الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء [ أمثال عبد الله بن أبي والشاكين في الدين ] ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. يريد عائشة طيبها الله لرسوله الطيب صلى الله عليه وسلم.

( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ ) يعني: عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ( النساء- 11 ) أي: إخوان. وقيل: « أولئك مبرءون » يعني الطيبين والطيبات منـزهون، ( مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) فالمغفرة هي العفو عن الذنوب، والرزق الكريم: الجنة.

وروي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها، منها أن جبريل أتى بصورتها في سرقة من حرير، وقال هذه زوجتك. وروي أنه أتى بصورتها في راحته وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها، وكان ينـزل عليه الوحي وهو معها في لحافه، ونـزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه، وخلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما .

وكان مسروق إذا روى عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من السماء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 27 )

قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قيل: معنى قوله: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) أي: حتى تستأذنوا [ وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ] ويقول: تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي بن كعب، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان. وقيل: الاستئناس طلب الأنس، وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنهم إني داخل. وقال الخليل: الاستئناس الاستبصار من قوله: آنست نارا، أي: أبصرت. وقيل: هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح، يؤذن أهل البيت.

وجملة حكم الآية: أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان. واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام؟ فقال قوم: يقدم الاستئذان فيقول: أأدخل سلام عليكم، لقوله تعالى: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) أي: تستأذنوا، ( وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول: سلام عليكم أأدخل. وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا. وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود. وروي عن كلدة بن حنبل قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل .

وروي عن ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال: أأدخل؟ فقال ابن عمر: لا فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له .

وقال بعضهم: إن وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان، ثم سلم، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة: يستأذن على ذوات المحارم، ومثله عن الحسن، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك أدنى حركة.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع » . قال عمر: لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده، قال: فجاء أبو موسى الأشعري ممتقعًا لونه وأنا في حلقة جالس، فقلنا: ما شأنك؟ فقال: سلمت على عمر، فأخبرنا خبره، فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم كلنا قد سمعه، قال فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك .

ورواه بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري، وفيه: قال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع » . قال الحسن: الأول إعلام والثاني مؤامرة، والثالث استئذان بالرجوع.