قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 54 ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 55 )

( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي: تولوا عن طاعة الله ورسوله، ( فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ) يعني: على الرسول ما كُلِّف وأُمر به من تبليغ الرسالة، ( وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ) من الإجابة والطاعة، ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي: التبليغ البين. قوله عز وجل: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) قال أبو العالية في هذه الآية: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار، وكانوا يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ خائفين، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فأنـزل الله هذه الآية ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة، يعني: والله ليستخلفنهم، أي: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها، ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) قرأ أبو بكر عن عاصم: « كما استخلف » بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى: « وعد الله » . قال قتادة: ( كَمَا اسْتَخْلَفَ ) داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء. وقيل: « كما استخلف الذين من قبلهم » أي: بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) أي: اختار، قال ابن عباس: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان، ( وَلَيُبدِّلنَّهُمْ ) قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل، وهما لغتان، وقال بعضهم: التبديل تغيير حال إلى حال، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه، ( مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي ) آمنين، ( لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) فأنجز الله وعده، وأظهر دينه، ونصر أولياءه، وأبدلهم بعد الخوف أمنًا وبسطًا في الأرض.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعيد الطاهري، أخبرنا محمد بن خليفة، عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال: « يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها » ، قال: « فإن طالت بك حياة فَلَتَريَنَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله » ، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟، « ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى » قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: « كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليَلْقَينَّ اللهَ أحدُكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجمُ فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنَّم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم » ، قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة » ، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونَّ ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه

وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون، مُلْكًا » . ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرًا، وعثمان اثنتا عشر، وعلي ستة. قال علي: قلت لحماد: سفينة، القائل، لسعيد أمسك؟ قال: نعم . قوله عز وجل: ( وَمَنْ كَفَرَبَعْدَ ذَلِكَ ) أراد به كفران النعمة، ولم يرد الكفر بالله، ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) العاصون لله. قال أهل التفسير: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه غيرَّ الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا.

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن سلام في عثمان: إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، فوالله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يَدَ لهُ، وإن سيف الله لم يزل مغمودًا عنكم، والله لئن قتلتموه ليسلنَّه الله ثم لا يغمده عنكم، إما قال: أبدًا، وإما قال: إلى يوم القيامة، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفًا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفًا

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 56 ) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 57 )

قوله عز وجل: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) أي: افعلوها على رجاء الرحمة. ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قرأ عامر وحمزة « لا يحسبن » بالياء، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ( مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ ) وقرأ الآخرون بالتاء، يقول: لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين فائتين عنا، ( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 58 )

قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) الآية: قال ابن عباس رضي الله عنهما وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالةٍ كره عمر رؤيته ذلك، فأنـزل الله هذه الآية وقال مقاتل: نـزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقتٍ كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنـزل الله تعالى « يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم » : اللام لام الأمر. ( الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) يعني: العبيد والإماء، ( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) من الأحرار، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا.

( ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) أي: ليستأذنوا في ثلاث أوقات، ( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ) يريد المَقِيْل، ( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: « ثلاث » بنصب الثاء بدلا عن قوله: « ثلاث مرات » ، وقرأ الآخرون بالرفع، أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته، ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ ) جناح، ( وَلا عَلَيْهِمْ ) يعني: على العبيد والخدم والصبيان، ( جُنَاحٌ ) في الدخول عليكم من غير استئذان، ( بَعْدَهُن ) أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة، ( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) أي: العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن، ( بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي: يطوف، ( بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) واختلف العلماء في حكم هذه الآية: فقال قوم: منسوخ .

قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت: سألت الشعبي عن هذه الآية: « ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم » أمنسوخة هي؟ قال: لا والله، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: إن ناسًا يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس .