وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 59 )

قوله تعالى: ( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) أي: الاحتلام، يريد الأحرار الذين بلغوا، ( فليستأذنوا ) أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم، ( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) الأحرار والكبار. وقيل: يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى. ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) دلالاته. وقيل: أحكامه، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ ) بأمور خلقه، ( حَكِيم ) بما دبر لهم. قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنـزلت هذه الآية في ذلك . وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم، إن لم يفعل رأى منها ما يكره .

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 60 ) لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 61 )

قوله تعالى: ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) يعني اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر، لا يلدن ولا يحضن، واحدتها « قاعد » بلا هاء. وقيل: قعدن عن الأزواج، وهذا معنى قوله: ( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) أي: لا يردن الرجال لكبرهن، قال ابن قتيبة: سميت المرأة قاعدًا إذا كبرت، لأنها تكثر القعود . وقال ربيعة الرأي: هن العُجَّز، اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية، ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) عند الرجال، يعني: يضعن بعض ثيابهن، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار فلا يجوز وضعه، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأبي بن كعب: « أن يضعن من ثيابهن » ، ( غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) أي: من غير أن يردن بوضع الجلباب، والرداء إظهار زينتهن، والتبرُّج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تتنـزه عنه. ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ ) فلا يلقين الجلباب والرداء، ( خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) الآية، اختلف العلماء في هذه الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنـزل الله عز وجل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( النساء- 29 ) ، تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعمي والعرج، وقالوا الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل. والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام، فأنـزل الله هذه الآية وعلى هذا التأويل يكون « على » بمعنى « في » أي: ليس في الأعمى، يعني: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض.

وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنـزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، ويقول الأعمى: ربما أكل أكثر، ويقول الأعرج: ربما أخذ مكان الاثنين، فنـزلت هذه الآية . وقال مجاهد: نـزلت الآية ترخيصًا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمَّى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره؟ فأنـزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غُيَّب، فأنـزل الله هذه الآية رخصة لهم قال الحسن: نـزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد. قال: تم الكلام عند قوله: « ولا على المريض حرج » ، وقوله تعالى: ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) كلام منقطع عما قبله

وقيل: لما نـزل قوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( النساء- 29 ) ، قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنـزل الله عز وجل ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم. قيل: أراد من أموال عيالكم وأزواجكمُ وبيت المرأة كبيت الزوج. وقال ابن قتيبة: أراد من بيوت أولادكم، نَسَبَ بيوتَ الأولادِ إلى الآباء كما جاء في الحديث: « أنت ومالك لأبيك » ، ( أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر. وقال الضحاك: يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منـزل عبده والمفاتيح الخزائن، لقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام- 59 ) ويجوز أن يكون الذي يفتح به. قال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. وقال السدي: الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم: « ما ملكتم مفاتحه » ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم.

( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) الصديق الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس: نـزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه، خرج غازيًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلَّف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودًا فسأله عن حاله، فقال: تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنـزل الله هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا ) من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا، من غير أن تتزودوا وتحملوا.

قوله: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) نـزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفًا يأكل معه، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرَّواح، وربما كانت معه الإبل الحُفَّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدًا أكل، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأجنح، أي: أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير، فنـزلت هذه الآية . وقال عكرمة وأبو صالح: نـزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نـزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا، جميعًا أو أشتاتًا متفرقين .

( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي: يسلم بعضكم على بعض، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار . وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلِّمْ على أهلك فهو أحق من سَلَّمْتَ عليه، وإذا دخلت بيتًا لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حُدِّثْنَا أن الملائكة ترد عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه ) نصب على المصدر، أي: تحيون أنفسكم تحية، ( مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حسنة جميلة. وقيل: ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )