إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( 12 )

( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وقيل إذا رأتهم زبانيتها. ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا ) غليانًا, كالغضبان إذا غَلَى صدره من الغضب. ( وَزَفِيرًا ) صوتًا. فإن قيل: كيف يسمع التغيظ؟ قيل: معناه رأوا وعلموا أن لها تغيظًا وسمعوا لها زفيرًا, كما قال الشاعر:

ورأيــتُ زوجَــكِ فــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحًـــا

أي وحاملا رمحًا . وقيل: سمعوا لها تغيظًا, أي: صوت التغيظ من التلهب والتوقد, قال عبيد بن عمير: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى مَلَك مُقرَّب ولا نبي مرسل إلا خرَّ لوجهه.

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( 13 ) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( 14 ) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( 15 )

( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا ) قال ابن عباس: تضيق عليهم كما يضيق الزجُّ . في الرمح, ( مُقَرَّنِينَ ) مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل, ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) قال ابن عباس: ويلا. وقال الضحاك: هلاكًا, وفي الحديث: « إن أول من يكسى حلة من النار إبليس, فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه, وذريتُه من خلفه, وهو يقول: يا ثبوراه, وهم ينادون: يا ثبورهم, حتى يقفوا على النار فينادون: يا ثبوراه, وينادي: يا ثبورهم, فيقال لهم ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) قيل: أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة, فادعوا أدعية كثيرة. قوله عز وجل: ( قُلْ أَذَلِكَ ) يعني الذي ذكرته من صفة النار وأهلها, ( خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً ) ثوابًا, ( وَمَصِيرًا ) مرجعًا. »

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ( 16 ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( 17 ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( 18 ) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( 19 )

( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) مطلوبًا, وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران- 194 ) , يقول: كان أعطى الله المؤمنين جنة خلد وعدًا, وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك. قال محمد بن كعب القرظي: الطلب من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ( غافر- 8 ) . ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ) قرأ ابن كثير, وأبو جعفر, ويعقوب, وحفص: ( يَحْشُرُهُمْ ) بالياء, وقرأ الباقون بالنون, ( وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال مجاهد: من الملائكة والجن والإنس وعيسى وعزير. وقال عكرمة والضحاك والكلبي: يعني الأصنام, ثم يخاطبهم ( فَيَقُولُ ) قرأ ابن عامر بالنون والآخرون بالياء, ( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) أخطأوا الطريق. ( قَالُوا سُبْحَانَكَ ) نـزهوا الله من أن يكون معه إله, ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) يعني: ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك, بل أنت ولينا من دونهم. وقيل: ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقرأ أبو جعفر « أن نُتَّخَذَ » بضم النون وفتح الخاء, فتكون « من » الثاني صلة. ( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ ) في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة, ( حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن. وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه, ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يعني هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان, رجل يقال له بائر, وقوم بور, وأصله من البوار وهو الكساد والفساد, ومنه بوار السلعة وهو كسادها. وقيل هو اسم مصدر كالزور, يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) هذا خطاب مع المشركين, أي: كذبكم المعبودون, ( بِمَا تَقُولُونَ ) إنهم آلهة, ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ ) قرأ حفص بالتاء يعني العابدين, وقرأ الآخرون بالياء يعني: الآلهة. ( صَرْفًا ) يعني: صرفًا من العذاب عن أنفسهم, ( وَلا نَصْرًا ) يعني: ولا نصر أنفسهم. وقيل: ولا نصركم أيها العابدون من عذاب الله بدفع العذاب عنكم. وقيل: « الصرف » : الحيلة, ومنه قول العرب: إنه ليصرف, أي: يحتال, ( وَمَنْ يَظْلِمْ ) يشرك, ( مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا )

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( 20 )

قوله عز وجل: ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يا محمد, ( إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما عيرَّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق, أنـزل الله عز وجل هذه الآية . يعني: ما أنا إلا رسول وما كنتُ بِدْعًا من الرسل, وهم كانوا بشرًا يأكلون الطعام, ( وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ) وقيل: معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر: مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ( فصلت- 43 ) .

( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) أي بلية, فالغني فتنة للفقير, يقول الفقير: ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض, والشريف فتنة للوضيع. وقال ابن عباس: أي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم, وترون من خلافهم, وتتبعوا الهدى. وقيل: نـزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع؛ وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أَنِف, وقال: أُسْلِمُ بعده فيكون له عليَّ السابقة والفضل؟! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام, فذلك افتتان بعضهم ببعض, وهذا قول الكلبي وقال مقاتل: نـزلت في أبي جهل, والوليد بن عقبة, والعاص بن وائل, والنضر بن الحارث؛ وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر, وابن مسعود, وعمارًا, وبلالا وصهيبًا, وعامرَ بن فهيرة, وذويهم, قالوا: نسلم فنكون مثل هؤلاء؟. وقال: نـزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش, كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدًا من موالينا وأراذلنا, فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين: ( أَتَصْبِرُون ) يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى.

( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) بمن صبر وبمن جزع. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن, أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا زكريا بن يحيى المروزي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن أبي الزناد عن الأعرج, عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا نظر أحدكم إلى مَنْ فُضِّلَ عليه في المال والجسم فلينظر إلى مَنْ دونه في المال والجسم » .