وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ( 21 ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ( 22 )

قوله عز وجل: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا يخافون البعث, قال الفرَّاء: « الرجاء » بمعنى الخوف, لغة تهامة, ومنه قوله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( نوح- 13 ) , أي: لا تخافون لله عظمة. ( لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ) فتخبرنا أن محمدًا صادق, ( أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) فيخبرنا بذلك. ( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا ) أي: تعظموا. ( فِي أَنْفُسِهِمْ ) بهذه المقالة, ( وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) قال مجاهد: « عتوًا » طغوا في القول و « العتُّو » : أشد الكفر وأفحشُ الظلم, وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به. ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) عند الموت. وقيل: في القيامة. ( لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) للكافرين, وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة, ويقولون للكفار: لا بشرى لكم, هكذا قال عطية, وقال بعضهم: معناه أنه لا بشرى يوم القيامة للمجرمين, أي: لا بشارة لهم بالجنة, كما يُبَشَّرُ المؤمنون. ( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) قال عطاء عن ابن عباس: تقول الملائكة حرامًا محرمًا أن يدخل الجنة, إلا من قال لا إله إلا الله. وقال مقاتل: إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة حرامًا محرمًا عليكم أن يكون لكم البشرى. وقال بعضهم: هذا قول الكفار للملائكة. قال ابن جريج: كانت العرب إذا نـزلت بهم شدة رأوا ما يكرهون, قالوا حجرًا محجورًا, فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة. قال مجاهد: يعني عَوْذًا معاذًا, يستعيذون به من الملائكة .

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ( 23 ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ( 24 )

( وَقَدِمْنَا ) وعمدنا, ( إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) أي: باطلا لا ثواب له, فهم لم يعملوه لله عز وجل. واختلفوا في « الهباء » , قال علي « هو ما يرى في الكُوَّة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار, ولا يمس بالأيدي, ولا يرى في الظل » , وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد, و « المنثور » : المتفرق. وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر. وقال مقاتل: هو ما يسطع من حوافر الدوابِّ عند السير. وقيل: « الهباء المنثور » : ما يرى في الكوة, و « الهباء المنبث » : هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل . قوله عز وجل: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) أي: من هؤلاء المشركين المتكبرين, ( وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) موضع قائلة, يعني: أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, وقرأ « ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم » هكذا كان يقرأ . وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب ذلك اليوم في أوله, وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة. قال الأزهري: « القيلولة » و « المقيل » : الاستراحة نصف النهار, وإن لم يكن مع ذلك نوم, لأن الله تعالى قال: « وأحسن مقيلا » , والجنة لا نوم فيها. ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس .

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا ( 25 ) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ( 26 ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ( 27 )

قوله عز وجل: ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) أي: عن الغمام, الباء وعن يتعاقبان, كما يقال: رميت عن القوس وبالقوس, وتشقق بمعنى تتشقق, أدغموا إحدى التاءين, وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا, وفي سورة « ق » بحذف إحدى التاءين, وقرأ الآخرون بالتشديد, أي: تتشق بالغمام, وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة, ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. ( وَنـزلَ الْمَلائِكَةُ تَنـزيلا ) قرأ ابن كثير: و « نُنـزلُ » بنونين خفيف ورفع اللام, « الملائكةَ » نصب, قال ابن عباس: تشقق السماء الدنيا فينـزل أهلها, وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس, ثم تشقق السماء الثانية فينـزل أهلها, وهم أكثر ممن في السماء الدنيا, ومن الجن والإنس, ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها, ثم ينـزل الكروبيون ثم حملة العرش . ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ) أي: [ الملك ] الذي هو الملك الحق حقًا ملك الرحمن يوم القيامة. قال ابن عباس: يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضى غيره. ( وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) شديدًا, فهذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمن عسيرا, وجاء في الحديث: « أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا » ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط, وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه, وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعامًا فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قرب الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله » فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه, وكان عقبة صديقًا لأبَيِّ بن خلف, فلما أخبر أبي بن خلف قال له: يا عقبة صبأت؟ قال: لا والله ما صبأت, ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له, فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يطعم, فشهدت له فطعم, فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه, ففعل ذلك عقبة, فقال عليه السلام: « لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوتُ رأسك بالسيف » فقتل عقبة يوم بدر صبرًا. وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده

وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد بزاقه في وجهه فاحترق خداه, وكان أثر ذلك فيه حتى الموت . وقال الشعبي كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة, فقال أمية: وجهي من وجهك حرام أن بايعت محمدًا, فكفر وارتدَّ, فأنـزل الله عز وجل: « ويوم يعض الظالم » يعني: عقبة بن أبي معيط بن عبد شمس بن مناف « على يديه » ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله, وأوبق نفسه بالمعصية والكفر بالله بطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه. قال عطاء: يأكل يديه حتى تبلغ مرفقيه ثم تنبتان, ثم يأكل هكذا, كلما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل. ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ ) في الدنيا, ( مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ) ليتني اتبعت محمدا صلى الله عليه وسلم, واتخذت معه سبيلا إلى الهدى. قرأ أبو عمرو: « يَا ليتني اتخذت » بفتح الياء, والآخرون بإسكانها.

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ( 28 ) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا ( 29 )

( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ) يعني: أبي بن خلف. ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) عن الإيمان والقرآن, ( بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) يعني: الذكر مع الرسول, ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ ) وهو كل متمرد عات من الإنس والجن, وكل من صد عن سبيل الله فهو شيطان. ( لِلإنْسَانِ خَذُولا ) أي: تاركًا يتركه ويتبرأ منه عند نـزول البلاء والعذاب, وحكم هذه الآية عام في حق كل متحابين اجتمعا على معصية الله. أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن العلاء, أخبرنا أبو أسامة, عن يزيد, عن أبي بردة, عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَثَلُ الجليسِ الصالح والسوءِ, كحامِلْ المسك ونافخِ الكِير, فحاملُ المسك إمَّا أن يُحْذِيَك وإمَّا أن تبتاع منه, وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيبة, ونافخُ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك, وإمَّا أن تجد منه ريحًا خبيثة » .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن حياة بن شريح, أخبرني سالم بن غيلان أن الوليد بن قيس التُّجيـبـي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري - قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي » . أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن كساب النيسابوري, أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا حميد بن عياش الرملي, أخبرنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا زهير بن محمد الخراساني, حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المرءُ على دين خليلهِ فلينظْر أحدُكم من يُخَالِلُ » .

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( 30 )

( وَقَالَ الرَّسُولُ ) يعني: ويقول الرسول في ذلك اليوم: ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) أي: متروكًا فأعرضوا عنه, ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه. وقيل: جعلوه بمنـزلة الهجر وهو الهذيان, والقوي السيء, فزعموا أنه شعر وسحر, وهو قول النخعي ومجاهد. وقيل: قال الرسول يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم يشكوا قومه إلى الله يا رب: إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا فعزَّاه الله تعالى فقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( 31 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ( 32 )

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا ) يعني: كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك كذلك جعلنا, ( لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) يعني: المشركين. قال مقاتل: يقول لا يَكْبُرَنَّ عليك, فإن الأنبياء قبلك قد لَقِيَتْ هذا من قومهم, فاصبر لأمري كما صبروا, فإني ناصرك وهاديك, ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) كما أنـزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ ) فَعَلْتُ, ( لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) أي: أنـزلناه متفرقًا ليقوى به قلبك فتعيه وتحفظه, فإن الكتب أنـزلت على الأنبياء يكتبون ويقرءون, وأنـزل الله القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ, ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ, ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور, ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأيسر على العامل به. ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال ابن عباس: بيَّنَّاه بيانًا, والترتيل: التبيين في ترسل وتثبت. وقال السدي: فصَّلناه تفصيلا. وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. وقال النخعي والحسن وقتادة: فرقناه تفريقًا, آيةً بعد آية.