وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 56 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ( 57 ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( 58 ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( 59 )

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) أي: منذرًا. ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ) على تبليغ الوحي, ( مِنْ أَجْرٍ ) فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه, ( إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) هذا من الاستثناء المنقطع, مجازه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإنفاق من ماله في سبيله فعل ذلك, والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرًا ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته. ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي: صل له شكرًا على نعمه. وقيل: قل: سبحان الله, والحمد لله. ( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ) عالمًا فيجازيهم بها. ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) بالرحمن. قال الكلبي: يقول فاسأل الخبير [ بذلك, يعني: بما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش. وقيل: ] الخطاب للرسول والمراد منه غيره لأنه كان مصدقًا به, والمعنى: أيها الإنسان لا ترجح في طلب العلم بهذا إلى غيري. وقيل: الباء بمعنى « عن » , أي: فاسأل عنه خبيرا وهو الله عز وجل. وقيل: جبريل عليه السلام.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( 60 ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ( 61 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( 62 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ) ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة, يعنون مسيلمة الكذاب, كانوا يسمونه رحمن اليمامة. ( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) قرأ حمزة والكسائي « يأمرنا » بالياء, أي: لما يأمرنا محمد بالسجود له, وقرأ الآخرون بالتاء, أي: لما تأمرنا أنت يا محمد, ( وَزَادَهُم ) يعني: زادهم قول القائل لهم: « اسجدوا للرحمن » ( نُفُورًا ) عن الدين والإيمان. قوله عز وجل ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال الحسن ومجاهد وقتادة: « البروج » : هي النجوم الكبار, سميت بروجًا لظهورها, وقال عطية العوفي: « بروجًا » أي: قصورًا فيها الحرس كما قال: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ( النساء- 78 ) . وقال عطاء عن ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة, وهي الحمل, والثور, والجوزاء, والسرطان, والأسد, والسنبلة, والميزان, والعقرب, والقوس, والجدي, والدلو, والحوت, فالحمل والعقرب بيتا المريخ, والثور والميزان بيتا الزهرة, والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد, والسرطان بيت القمر, والأسد بيت الشمس, والقوس والحوت بيتا المشتري, والجدي والدلو بيتا زحل, وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات, فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية, والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية, والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية, والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.

( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) يعني الشمس, كما قال: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( نوح- 16 ) , وقرأ حمزة والكسائي: « سُرُجًا » بالجمع, يعني النجوم. ( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) والقمر قد دخل في « السُّرْج » على قراءة من قرأ بالجمع, غير أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة, كما قال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( الرحمن - 68 ) , خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في الفاكهة. ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) اختلفوا فيها, قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني خلفًا وعوضًا, يقوم أحدهما مقام صاحبه, فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب, قال فاتتني الصلاةُ الليلةَ, فقال: أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك, فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكَّر . [ قال مجاهد: يعني جعل كل واحد منهما مخالفًا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض . وقال ابن زيد وغيره ] يعني يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان . ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) قرأ حمزة بتخفيف الذال والكاف وضمها من الذكر, وقرأ الآخرون بتشديدهما أي: يتذكر ويتعظ ( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال مجاهد: أي: شكر نعمة ربه عليه فيهما.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( 63 )

قوله عز وجل: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ) أي: أفاضل العباد. وقيل: هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل, وإلا فالخلق كلهم عباد الله. ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أي: بالسكينة والوقار متواضعين غير أَشِرين ولا مرحين, ولا متكبرين. وقال الحسن: علماء وحكماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون, وإن سُفه عليهم حلموا, و « الهَوْن » في اللغة: الرفق واللين . ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ ) يعني السفهاء بما يكرهون, ( قَالُوا سَلامًا ) قال مجاهد: سدادًا من القول . وقال مقاتل بن حيان: قولا يسلمون فيه من الإثم. وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا, وليس المراد منه السلام المعروف. وروي عن الحسن: معناه سلموا عليهم, دليله قوله عز وجل: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ( القصص- 55 ) . قال الكلبي وأبو العالية: هذا قبل أن يؤمر بالقتال, ثم نسختها آية القتال . وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم, ثم قرأ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا قال: هذا وصف ليلهم.

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( 64 ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( 65 ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( 66 ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ( 67 )

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ ) يقال لمن أدرك الليل: بات, نام أو لم ينم, يقال: بات فلان قَلِقًا, والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة, ( سُجَّدًا ) على وجوههم, ( وَقِيَامًا ) على أقدامهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدًا وقائمًا . أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا أبو نعيم عن سفيان, عن عثمان بن حكيم, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله » قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) أي: مُلِحًا دائمًا, لازمًا غير مفارقٍ من عذب به من الكفار, ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إياه. قال محمد بن كعب القرظي: سأل الله الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوا فأغرمهم فيه, فبقوا في النار. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا جهنم. و « الغرام » : الشر اللازم, وقيل: « غرامًا » هلاكًا. ( إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) أي: بئس موضع قرار وإقامة. ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة « يقتروا » بفتح الياء وكسر التاء, وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء, وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء, وكلها بلغات صحيحة. يقال: أقتر وقترَّ بالتشديد, وقترّ يُقَتِّر. واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار, فقال بعضهم: « الإسراف » : النفقة في معصية الله وإن قلت, و « الإقتار » : منع حق الله تعالى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج. وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله . وقال قوم: « الإسراف » : مجاوزة الحد في الإنفاق, حتى يدخل في حد التبذير, و « الإقتار » : التقصير عمَّا لا بدَّ منه, وهذا معنى قول إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قصدًا وسطًا بين الإسراف والإقتار, حسنة بين السيئتين. قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة, ولا يلبسون ثوبًا للجمال, ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم, ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويُكِنُّهم من الحر والقر . قال عمر بن الخطاب: كفى سرفًا أن لا يشتهي الرجل شيئًا إلا اشتراه فأكله