قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ( 20 )

( قَالَ ) موسى, ( فَعَلْتُهَا إِذًا ) أي: فعلت ما فعلت حينئذ, ( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) أي: من الجاهلين, أي لم يأتني من الله شيء . وقيل: من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله. وقيل: من الضالين عن طريق الصواب من غير تعمد. وقيل: من المخطئين.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 21 ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 22 )

( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) إلى مدين, ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ) يعني النبوة, وقال مقاتل: يعني العلم والفهم, ( وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) اختلفوا في تأويلها: فحملها بعضهم على الإقرار وبعضهم على الإنكار. فمن قال هو إقرار, قال عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه, ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل, ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل مجازه: بلى وتلك نعمة علي أن عبدت بني إسرائيل, وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال: هو إنكار قال قوله: « وتلك نعمة » هو على طريق الاستفهام, أي: أو تلك نعمة؟ حذف ألف الاستفهام, كقوله: فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( الأنبياء- 34 ) ؟ قال الشاعر

تَــرُوحُ مــن الحــيِّ أو تَبْتَكِـرْ ومــاذا يَضُــرُّكَ لــو تَنْتَظِــرْ?

أي: أتروح من الحي؟ قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:

لَــمْ أَنْسَ يــومَ الرَّحِــيلِ وِفقَتَهـا وَطرْفُهــا فــي دموعِهــا غَـرِقُ

وقولُهـــا والركـــابُ واقفـــةٌ تَـــتْرُكنِي هكـــذا وتَنْطَلِـــقُ?

أي: أتتركني, يقول: تَمُنُّ عليَّ أن ربَّيتني, وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة؟. أو يريد: كيف تمنَّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي, ومن أهين قومه ذُلّ, فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليَّ. وقيل معناه تمن علي بالتربية. وقوله: ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: باستعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم, دُفعت إليك حتى ربيتني وكفلتني ولو لم تستعبدهم وتقتلهم كان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم, فأي نعمة لك علي؟ قوله: ( عَبَّدْتَ ) أي: اتخذتهم عبيدًا, يقال: عبَّدتُ فلانًا, وأعبدته, وتعبدته, واستعبدته, أي: اتخذته عبدًا.

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 23 ) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 24 ) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ( 25 ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 26 ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( 27 ) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ( 28 ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( 29 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ( 30 )

( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول: أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إلي؟ يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه بـ « ما » , وهو سؤال عن جنس الشيء, والله منـزه عن الجنسية, فأجابه موسى عليه السلام بذكر أفعاله التي يعجز عن الإتيان بمثلها. ( قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) إنه خالقهما. قال أهل المعاني: أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها فأيقنوا أن إله الخلق هو الله عز وجل, فلما قال موسى ذلك تحير فرعون في جواب موسى. ( قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ) من أشراف قومه. قال ابن عباس: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة, قال لهم فرعون استبعادًا لقول موسى: ( أَلا تَسْتَمِعُونَ ) وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم. فزادهم موسى في البيان. ( قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) ( قَالَ ) يعني: فرعون: ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) يتكلم بكلام لا نعقله ولا نعرف صحته, وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل, فزاد موسى في البيان: ( قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( قَالَ ) فرعون - حين لزمته الحجة وانقطع عن الجواب- تكبرا عن الحق: ( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) من المحبوسين, قال الكلبي: كان سجنه أشد من القتل, لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردًا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئًا, يهوي به في الأرض. ( قَالَ ) له موسى حين توعده بالسجن: ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ ) أي: وإن جئتك, ( بِشَيْءٍ مُبِينٍ ) بآية مبينة, ومعنى الآية: أتفعل ذلك وإن أتيتك بحجة بينة؟ وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان.

قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 31 ) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 32 ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 33 ) قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( 34 ) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( 35 ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 36 ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ( 37 ) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 38 ) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ( 39 )

( قَالَ ) له فرعون, ( فَأْتِ بِهِ ) فإنا لن نسجنك حينئذ, ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) فقال: وهل غيرها؟. ( وَنـزعَ ) موسى , ( يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) ( قَالَ ) فرعون ( لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) ؟ ( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) . ( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ) . ( فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) وهو يوم الزينة. وروي عن ابن عباس قال: وافق ذلك اليوم يوم السبت, في أول يوم من السنة, وهو يوم النيروز. ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ) لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة؟