مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ( 207 ) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ( 208 ) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 209 ) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( 210 ) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( 211 ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( 212 ) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( 213 )

( مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) به في تلك السنين. والمعنى: أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئًا, ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط. ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ) رسل ينذرونهم. ( ذِكْرَى ) محلها نصب, أي: ينذرونهم, تذكره, وقيل: رفع أي: تلك ذكرى, ( وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم. ( وَمَا تَنـزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) وذلك أن المشركين كانوا يقولون إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, فقال جل ذكره: « وما تنـزلت به » , أي: بالقرآن, الشياطين. ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ) أن ينـزلوا بالقرآن, ( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) ذلك. ( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ ) أي: عن استراق السمع من السماء, ( لَمَعْزُولُونَ ) أي: محجوبون بالشهب مرجومون. ( فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحذر به غيره, يقول: أنت أكرم الخلق علي ولو اتخذت إلهًا غيري لعذبتك.

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ( 214 )

( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) روى محمد بن إسحاق, عن عبد الغفار بن القاسم, عن المنهال بن عمرو, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب, عن عبد الله بن عباس, عن علي بن أبي طالب. قال: لما نـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعًا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره, فصمتُّ عليها جاءني جبريل, فقال لي: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك, فاصنع لنا صاعًا من طعام واجعل عليه رِجْلَ شاةٍ, واملأ لنا عُسًّا من لبن, ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أُمرتُ به » . قال علي رضي الله عنه: ففعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم دعوتهم له, وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه, فيهم أعمامه أبو طالب, وحمزة, والعباس, وأبو لهب, فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به, فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم, فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة, ثم قال: « خذوا باسم الله » فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة, وايْمُ الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم, ثم قال: « اسقِ القومَ » فجئتهم بذلك العُسِّ, فشربوا حتى رووا جميعًا, وايمُ الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم, فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الغد: « يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعتَ من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم, فَعُدَّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم » , ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام فَقَرَّبْتُه, ففعل كما فعل بالأمس, فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه, فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم, فأحجم القوم عنها جميعًا, فقلت - وأنا أحدثهم سنًا- أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. قال: فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم, فاسمعوا له وأطيعوا » , فقام القوم يضحكون, ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الأعمش, حدثنا عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نـزلت: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) « ورهطك منهم المخلصين » خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا, فهتف يا صاحباه, فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: « أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من صفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ » ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا قال: « فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » فقال أبو لهب: تبًا لك ما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام: فنـزلت « تبت يدا أبي لهب وقد تب » هكذا قرأ الأعمش يومئذ .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عمر بن حفص بن غياث, حدثنا أبي, حدثنا الأعمش, حدثني عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما نـزلت ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) صَعِدَ النبي على الصفا فجعل ينادي: « يا بني فهر, يا بني عدي - لبطون قريش- حتى اجتمعوا, فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو, فجاء أبو لهب وقريش, فقال: أرأيتَكم لو أخبرتُكم أنَّ خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيِّ؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقًا, قال: » فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ « , فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنـزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أغنى عنه ماله وما كسب »

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 215 )

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب, عن الزهري, أخبرني سعيد بن المسيب, وأبو سلمة بن عبد الرحمن, أنا أبا هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنـزل الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ فقال: « يا معشر قريش, أو كلمة نحوها, اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا, يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئَا, يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئَا, يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئَا, ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا » .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري, أخبرني جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز, أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري, أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن قتادة, عن مطرف بن عبد الله بن الشخير, عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جَهِلْتُم ممَّا علَّمني يومي هذا, وإنه قال: إن كلَّ مالٍ نَحَلْتُه عبادي فهو لهم حلال, وإني خلقت عبادي حُنَفَاءَ كلهم, فأتتهم الشياطين فاجْتَالَتْهم عن دينهم, وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم, وأَمَرْتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطانًا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهم عَرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب, وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشًا, فقلت: يا رب إنهم إذا يَثْلَغُوا رأسي حتى يدعوه خُبْزَةً, فقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وقد أنـزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء, تقرؤه في المنام واليقظة, فاغزهم نُغْزِك, وأنفق ننفق عليك, وابعثْ جيشًا نمدِدْك بخمسة أمثالهم, وقاتلْ بمن أطاعك من عصاك, ثم قال: أهل الجنة ثلاثة: إمام مُقْسِط, ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم, ورجل غني متصدق, وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دِين له, الذين هم فيكم تبعٌ لا يتبعون بذلك أهلا ولا مالا ورجل إن أصبح أصبح يخادعك عن أهلك ومالك, ورجل لا يخفي له طمع - وإن دق- إلا ذهب به, والشِّنْظِيرُ الفاحش. قال: وذكر البخل والكذب » . قوله عز وجل: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 216 ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 217 ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ( 218 ) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( 219 ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 220 )

( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) من الكفر وعبادة غير الله . ( وَتَوَكَّلْ ) قرأ أهل المدينة, والشام: « فتوكل » بالفاء, وكذلك هو في مصاحفهم وقرأ الباقون بالواو « وتوكل » , ( عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ليكفيك كيد الأعداء. ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) إلى صلاتك, عن أكثر المفسرين. وقال مجاهد: الذي يراك أينما كنت. وقيل: حين تقوم لدعائهم. ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي: يرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك. قال عكرمة وعطية عن ابن عباس: في الساجدين أي: في المصلين. وقال مقاتل والكلبي: أي مع المصلين في الجماعة, يقول: يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين في الجماعة. وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين, فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه. أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, عن مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « هل ترون قبلتي هاهنا, فوالله ما يخفي علي خشوعكم ولا ركوعكم, إني لأراكم من وراء ظهري » وقال الحسن: « وتقلبك في الساجدين » أي: تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقال سعيد بن جبير: يعني وتصرفك في أحوالك, كما كانت الأنبياء من قبلك. والساجدون: هم الأنبياء. وقال عطاء عن ابن عباس: أراد تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة . ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( 221 ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 222 ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( 223 ) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( 224 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( 225 )

( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ) أخبركم, ( عَلَى مَنْ تَنـزلُ الشَّيَاطِينُ ) هذا جواب قولهم: تنـزل عليه شيطان, ثم بين فقال: ( تَنـزلُ ) أي: تتنـزل, ( عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ ) كذاب, ( أَثِيمٍ ) فاجر, قال قتادة: هم الكَهَنَةُ, يسترق الجنُّ السمعَ ثم يلقون إلى أوليائهم من الإنس. وهو قوله عز وجل: ( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) ( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) أي: يستمعون من الملائكة مستقرين, فيلقون إلى الكهنة, ( وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) لأنهم يخلطون به كذبًا كثيرًا. قوله عز وجل: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال أهل التفسير: أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذكر مقاتل أسماءهم, فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهمي, وهبيرة بن أبي وهب المخزومي, ومشافع بن عبد مناف. وأبو عزة بن عبد الله الجمحي, وأمية بن أبي الصلت الثقفي, تكلموا بالكذب وبالباطل, وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا الشعر, واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ويروون عنهم وذلك . قوله: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) هم الرواة الذين يروون هجاء [ النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمين. وقال قتادة ومجاهد: الغاوون هم الشياطين. وقال الضحاك: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين, ومع كل واحد منهما غواة من قومه, وهم السفهاء فنـزلت هذه الآية. وهي رواية عطية عن ابن عباس . ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ ) [ من أودية الكلام ] ( يَهِيمُونَ ) جائرون وعن طريق الحق حائدون, والهائم: الذاهب على وجهه لا مقصد له.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: في كل لغو يخوضون وقال مجاهد: في كل فن يفتنون. وقال قتادة: يمدحون بالباطل ويستمعون ويهجون بالباطل فالوادي مَثَلٌ لفنون الكلام, كما يقال: أنا في وادٍ وأنت في واد. وقيل: « في كل وادٍ يهيمون » أي: على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي.

وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ( 226 ) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ( 227 )

( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) أي: يكذبون في شعرهم, يقولون: فعلنا وفعلنا, وهم كذبة. أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح, أخبرنا أبو القاسم البغوي, حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لأن يمتلئَ جوفُ أحدِكم قَيْحًا, خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا » ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية, ويهجون شعراء الكفار, وينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, منهم حسان بن ثابت, وعبد الله بن رواحة, وكعب بن مالك, فقال: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري, عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك, عن أبيه, أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنـزل في الشعر ما أنـزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه, والذي نفسي بيده لكأنَّما ترمونهم به نَضْحَ النَّبل » .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي, أخبرنا الهيثم بن كليب, أخبرنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا إسحاق بن منصور, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا جعفر بن سليمان, حدثنا ثابت, عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:

خَــلُّوا بَنِــي الكفَّـارِ عـن سَـبيلهِ اليــومَ نضــربُكم عـلى تنـزيلـهِ

ضربًــا يُـزيل الهَـامَ عـن مَقِيْلـهِ ويُــذْهِلُ الخــليلَ عــن خلِيلِــه

فقال له عمر: يا ابنَ رواحةَ بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حَرَم الله تقول الشعر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « خلِّ عنه يا عمر, فلهي أسرع فيهم من نَضْحِ النَّبْلِ » أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا شعبة, أخبرني عدي أنه سمع البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: « اهجهم أو هاجهم وجبريل معك » .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم الخزاعي, أخبرنا الهيثم بن كليب, حدثنا أبو عيسى, حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر - المعنى واحد- قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يُؤيّد حَسانَ بروح القدس, ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله » . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغفار بن محمد, حدثنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث, حدثني أبي عن جدي, حدثنا خالد بن زيد, حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية, عن محمد بن إبراهيم, عن أبي عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اهجوُا قريشًا فإنه أشدُّ عليهم من رشق النبل » , فأرسل إلى ابن رواحة فقال: « اهْجُهُمْ » , فهجاهم فلم يُرْضِ, فأرسل إلى كعب بن مالك, ثم أرسل إلى حسان بن ثابت, فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه, فجعل يحرِّكه, فقال: والذي بعثك بالحق لأفْرِيَنَّهم بلساني فَرْيَ الأدِيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تَعْجَل, فإن أبا بكر أعلم قريشٍ بأنسابها, وإن لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي » , فأتاه حسان ثم رجع, فقال: يا رسول الله قد خلص لي نسبك, والذي بعثك بالحق لأسُلَّنَّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: « إن روح القُدُس لا يزال يؤيدك, ما نافحت عن الله ورسوله » , وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « هاجهم حسَّانُ فشفى واشتفى » , قال حسان:

هَجَــوْتَ محــمدًا فَــأَجبتُ عنـه وعنــدَ اللــه فــي ذاكَ الجــزاءُ

هجــوتَ محــمدًا بَــرًّا حَنِيفًــا رســولَ اللــه شــيمتُه الوفــاءُ

فــإنَّ أبـــي ووالـدتي وعِـرضِي لِعِــرضِ محــمدٍ منكــمْ وقــاءُ

فمَــنْ يهجـو رسـولَ اللـه منكـم ويَمْدَحُـــهُ وينصـــرُه ســـواءُ

وجــبريلُ رســولُ اللــه فينــا وروحُ القُـــدْس ليس لــه كِفَــاءُ

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن من الشعر لحكمة » قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: الشعر كلام, فمنه حسنٌ, ومنه قبيح, فخذ الحسنَ ودع القبيح وقال الشعبي: كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر, وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر, وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده؛ فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال:

أمــن آل نعـم أنـت غـاد فمبكـر غــداة غــد أم رائــح فمهجــر

فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها, وهي قريبة من سبعين بيتًا, ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها, وكان حفظها بمرة واحدة. ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله, ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال مقاتل: انتصروا من المشركين, لأنهم بدءوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين فقال: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) أي مرجع يرجعون بعد الموت. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلى جهنم والسعير. والله أعلم .