حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( 238 ) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 239 )

قوله تعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وإتمام أركانها، ثم خص من بينها الصلاة الوسطى بالمحافظة عليها دلالة على فضلها، والوسطى تأنيث الأوسط، ووسط الشيء: خيره وأعدله واختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في الصلاة الوسطى فقال قوم: هي صلاة الفجر، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر، وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد، وإليه مال مالك والشافعي، لأن الله تعالى قال: ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) والقنوت طول القيام، وصلاة الصبح مخصوصة بطول القيام وبالقنوت لأن الله تعالى خصها في آية أخرى من بين الصلوات فقال الله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ( 78- الإسراء ) ، يعني تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فهي مكتوبة في ديوان الليل وديوان النهار، ولأنها بين صلاتي جمع وهي لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها.

وذهب قوم إلى أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد، لأنها في وسط النهار وهي أوسط صلاة النهار في الطول.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن جعفر أنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها، فنـزلت: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) .

وذهب الأكثرون إلى أنها صلاة العصر رواه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول علي وعبد الله بن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة رضوان الله عليهم وبه قال إبراهيم النخعي وقتادة والحسن.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) فلما بلغتها آذنتها فأملت علي ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) « صلاة العصر » ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) قالت عائشة رضي الله عنها: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حفصة مثل ذلك.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر الرياني أنا حميد بن زنجويه أخبرنا أبو نعيم أنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق: « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا » ولأنها صلاتي نهار وصلاتي ليل، وقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالتغليظ.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا هشام أنا يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله » .

وقال قبيصة بن ذؤيب: هي صلاة المغرب لأنها وسط ليس بأقلها ولا بأكثرها، ولم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء وإنما ذكرها بعض المتأخرين لأنها بين صلاتين لا تقصران، وقال بعضهم هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، أبهمها الله تعالى تحريضا للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى الاسم الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها.

قوله تعالى: ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) أي مطيعين، قال الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاووس؛ والقنوت: الطاعة، قال الله تعالى أُمَّةً قَانِتًا ( 120- النحل ) أي مطيعا.

وقال الكلبي ومقاتل: لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين، وقيل القنوت السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نـزلت ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

وقال مجاهد: خاشعين، وقال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والركود وخفض الجناح، كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا، وقيل: المراد من القنوت طول القيام.

أخبرنا أبو عثمان الضبي أنا أبو محمد الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا ابن أبي عمر أنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: « طول القنوت » وقيل ( قَانِتِين ) أي داعين.

دليله ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا يدعو على أحياء من سليم على رعل وذكوان وعصية، وقيل معناه مصلين لقوله تعالى أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ( الزمر- 9 ) أي مصل.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا ) ( فرجالا ) أي رجالة يقال: راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام ( أَوْ رُكْبَانًا ) على دوابهم وهو جمع راكب، معناه إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا على ظهور دوابكم، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة يصلي حيث كان وجهه راجلا أو راكبا مستقبل القبلة وغير مستقبلها ويومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وكذلك إذا قصده سبع أو غشيه سيل يخاف منه على نفسه فعدا أمامه مصليا بالإيماء يجوز.

والصلاة في حال الخوف على أقسام فهذه صلاة شدة الخوف وسائر الأقسام سيأتي بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى، ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم، وروي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد وقتادة: أنه يصلي في حال شدة الخوف ركعة، وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضا فقل « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك » ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ) أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها ( كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ )

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 240 )

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ) يا معشر الرجال ( وَيَذَرُون ) أي يتركون ( أَزْوَاجًا ) أي زوجات ( وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ ) قرأ أهل البصرة وابن عامر وحمزة وحفص وصية بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرأ الباقون بالرفع أي كتب عليكم الوصية ( مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ) متاعا نصب على المصدر أي متعوهن متاعا، وقيل: جعل الله ذلك لهن متاعا، والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) نصب على الحال، وقيل بنـزع حرف على الصفة أي من غير إخراج، نـزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فأنـزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئا، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا كاملا وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولا كاملا وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة ما لم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نـزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خَرَجْنَ ) يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) يا أولياء الميت ( فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ) يعني التزين للنكاح، ولرفع الجناح عن الرجال وجهان:

أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

والآخر: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولا ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر.

( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 241 ) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 242 )

( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) إنما أعاد ذكر المتعة هاهنا لزيادة معنى، وذلك أن في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة، وقيل: إنه لما نـزل قوله تعالى : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ إلى قوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236- البقرة ) قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال الله تعالى: ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ ) جعل المتعة لهن بلام التمليك فقال: ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) يعني المؤمنين المتقين الشرك.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 243 ) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 244 ) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 245 )

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ) قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نـزلوا واديا أفيح فلما نـزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا جميعا.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه » فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي ومقاتل والضحاك: إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها .

واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني: كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب: أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي: ثمانية آلاف، وقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفا، وقال ابن جريج: أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح: سبعون ألفا، وأولى الأقاويل: قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الله تعالى قال « وهم ألوف » والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا: فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها، قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم: فأحياهم الله وقيل: دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم.

وقال مقاتل والكلبي: هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: احيوا بإذن الله فعاشوا.

قال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة: مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم [ ولو جاءت آجالهم ] ما بعثوا فذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ ) أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب.

قال أهل المعاني: هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه ( إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ) جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد ( حَذَرَ الْمَوْتِ ) أي خوف الموت ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ) أمر تحويل كقوله كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65- البقرة ) ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) بعد موتهم ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر.

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي في طاعة الله أعداء الله ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) قال أكثر أهل التفسير: هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا: وقيل: الخطاب لهذه الأمة، أمرهم بالجهاد.

قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعدهم من الثواب قرضا، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به القرض لأنه يقطع من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله، وقيل في الآية اختصار مجازه: من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( 57- الأحزاب ) أي يؤذون عباد الله، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي » .

قوله تعالى: ( يُقْرِضُ اللَّهَ ) أي ينفق في طاعة الله ( قَرْضًا حَسَنًا ) قال الحسين بن علي الواقدي: يعني محتسبا، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك: من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب « فيضعفه » وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون « فيضاعفه » بالألف مخففا وهما لغتان، ودليل التشديد قوله ( أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام، وقيل بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقا على قوله: يقرض ( أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) قال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقيل سبعمائة ضعف ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ) قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث « القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء » الحديث.

( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم، وقال قتادة: الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.