قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 ) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 79 )

( قَالَ ) يعني قارون، ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) أي: على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. قيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل: « على علم عندي » بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب. قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ ) الكافرة، ( مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ) للأموال، ( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِم الْمُجْرِمُونَ ) قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال، وقال مجاهد: يعني لا يسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.

( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال إبراهيم النخعي: خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر، قال ابن زيد: في سبعين ألفا عليهم المعصفرات. [ قال مجاهد: علي براذين بيض عليها سرج الأرجوان ] قال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر، وهن على البغال الشهب، ( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) من المال.

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( 80 ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ( 81 )

( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الأحبار من بني إسرائيل. وقال مقاتل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة، قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون في الدنيا: ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ ) يعني ما عند الله من الثواب والجزاء خير ( لِمَنْ آمَنَ ) وصدق بتوحيد الله، ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) مما أوتي قارون في الدنيا، ( وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ) قال مقاتل: لا يؤتاها، يعني الأعمال الصالحة. وقال الكلبي لا يعطاها في الآخرة. وقيل: لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله: « ويلكم ثواب الله خير » إلا الصابرون على طاعة الله وعن زينة الدنيا.

قوله عز وجل: ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعقلوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطًا أزرق كلون السماء، يذكرون به إذا نظروا إليها، ويعلمون أني منـزل منها كلامي، فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرًا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، [ فدعاهم موسى عليه السلام ] ، وقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطًا خضرًا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، ففعلت بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى، واستكبر قارون فلم يطعه، وقال: إنما يفعل هذا الأرباب، بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، وهي رياسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنـزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون من ذلك من نفسه وأتى موسى فقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست، في شيء من ذلك، وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا. فقال له موسى: ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له. فقال قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال: هاتوا عصيكم، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، واعتزل قارون، موسى بأتباعه، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتوًا وتجبرًا ومعاداًة لموسى، حتى بنى دارًا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما، فلما نـزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء على شيء، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرًا فلم تسمح بذلك نفسه، فجمع بني إسرائيل فقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغّي، فنجعل لها جُعْلا حتى تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه، فدعوها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، وقيل طستًا من ذهب، وقيل: قال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدًا إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض، فقام فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنتَ؟ قال: وإن كنت، أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظَّم عليها، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنـزل التوراة إلا صدقت، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها: أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالتْ: لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجدًا يبكي ويقول: اللهم إن كنت، رسولك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: إني أمرت، الأرض أن تطيعك، فمرها بما شئت، فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم.

وفي رواية: كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى، ويناشده قارون الله والرحم، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض، وأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثتُه، وفي بعض الآثار: لا أجعل الأرض بعدك طوعًا لأحد . قال قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. قال: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض، فذلك قوله عز وجل: ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) ( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ ) جماعة، ( يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يمنعونه من الله، ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ) الممتنعين مما نـزل به من الخسف.

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 82 )

( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ ) صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح، تقول: أصبح فلان عالمًا ، وأضحى معدمًا، وأمسى حزينًا، ( يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ) اختلفوا في معنى هذه اللفظة، قال مجاهد: ألم تعلم، وقال قتادة: ألم ترَ. قال الفراء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه. وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، يعني: أما ترينه وراء البيت. وعن الحسن: أنه كلمه ابتداء، تقديره: أن الله يبسط الرزق. وقيل: هو تنبيه بمنـزلة ألا وقال قطرب: « ويك » بمعنى ويلك، حذفت منه اللام، كما قال عنترة:

وَلَقَـــدْ شَـــفَى وَأَبْــرَأَ سُـقْمَهَا قَــوْلُ الفَـوَارِسِ وَيْـكَ عَنْـتَرَ أَقْـدِمِ

أي: ويلك، و « أن » منصوب بإضمار اعلم أن الله، وقال الخليل: « وي » مفصولة من « كأن » ومعناها التعجب، كما تقول: وي لم فعلت ذلك! وذلك أن القوم تندموا فقالوا: وي! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناه أظن ذلك وأقدره، كما تقول كأن: الفرج قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره، ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ) أي: يوسع ويضيق، ( لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ) قرأ حفص، ويعقوب: بفتح الخاء والسين، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين، ( وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 83 ) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 84 )

قوله تعالى: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال الكلبي ومقاتل: استكبارًا عن الإيمان، وقال عطاء: « علوًا » واستطالةً على الناس وتهاونًا بهم. وقال الحسن: لم تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان. وعن علي رضي الله عنه: أنها نـزلت في أهل التواضع من الولادة وأهل القدرةٍ ، ( وَلا فَسَادًا ) قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله. وقال عكرمة: أخذ أموال الناس بغير حق. وقال ابن جريج ومقاتل: العمل بالمعاصي. ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) أي: العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه. وقال قتادة: الجنة للمتقين.

( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) .