وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 12 )

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) يعني: العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور. قال محمد بن إسحاق: وهو لقمان بن ناعور بن ناحور بن تارخ وهو آزر. وقال وهب: كان ابن أخت أيوب ، وقال [ مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب ] . قال الواقدي: كان قاضيًا في بني إسرائيل .

واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًا، إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًا. وتفَّرد بهذا القول. وقال بعضهم: خيّر لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وروي أنه كان نائمًا نصف النهار فنُودي: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم علي فسمعًا وطاعة، فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لِمَ يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاها الظلم من كل مكان أن يعدل فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفًا، ومن يخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها، ثم نُودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه، وكان لقمان يؤازره بحكمته . وعن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا . وقال سعيد بن المسيب: كان خياطًا . وقيل: كان راعي غنم. فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألست فلانًا الراعي فبِمَ بلغتَ ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني . وقال مجاهد: كان عبدًا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين . قوله عز وجل: ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( 13 ) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 14 )

( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ ) واسمه أنعم، ويقال: مشكم، ( وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) قرأ ابن كثير: « يا بنيْ لا تشرك بالله » بإسكان الياء، وفتحها حفص، والباقون بالكسر، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا بفتح الياء حفص، والباقون بالكسر، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، بفتح الياء البزي عن ابن كثير وحفص، وبإسكانها القواس، والباقون بكسرها. ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) قال ابن عباس: شدة بعد شدة. وقال الضحاك: ضعفًا على ضعف. قال مجاهد: مشقة على مشقة. وقال الزجاج: المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة. ويقال: الحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف. ( وَفِصَالُه ) أي: فطامه، ( فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) المرجع، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين.

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 15 ) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 16 )

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) أي: بالمعروف، وهو البر و الصلة والعشرة الجميلة، ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا بكر، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فقالوا له: قد صدّقت هذا الرجل وآمنت به؟ قال: نعم، هو صادق، فآمنوا به، ثم حملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام. أسلموا بإرشاد أبي بكر . قال الله تعالى: ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) يعني أبا بكر، ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وقيل: نـزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه، وقد مضت القصة وقيل: الآية عامة في حق كافة الناس. ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) الكناية في قوله: « إنها » راجعة إلى الخطيئة، وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال: ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ) قال قتادة: تكن في جبل. وقال ابن عباس: في صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة السماء منها. قال السدي: خلق الله الأرض على حوت - وهو النون الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ن وَالْقَلَمِ - والحوت في الماء، والماء ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح ( أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ) باستخراجها، ( خَبِيرٌ ) عالم بمكانها، قال الحسن: معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء، صغيرها وكبيرها، وفي بعض الكتب إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات.

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 17 ) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 18 ) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( 19 )

( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك ) يعني من الأذى، ( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى فيهما، من الأمور الواجبة التي أمر الله بها، أو من الأمور التي يُعْزم عليها لوجوبها. ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: « ولا تصعِّر » بتشديد العين من غير ألف، وقرأ الآخرون: « تصاعر » بالألف، يقال: صعر وجهه وصاعر: إذا مال وأعرض تكبرًا، ورجل أصعر: أي: مائل العنق. قال ابن عباس: يقول: لا تتكبر فتحقِّر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. وقال مجاهد: هو الرجل يكون بينك وبينه إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. وقال عكرمة: هو الذي إذا سُلِّم عليه لَوَى عنقه تكبرا. وقال الربيع بن أنس وقتادة: ولا تحتقر الفقراء ليكن الفقر والغني عندك سواء، ( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا ) خيلاء ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبّ كُلَّ مُخْتَالٍ ) في مشيه ( فَخُورٍ ) على الناس. ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) أي: ليكن مشيك قصدًا لا تخيلا ولا إسراعًا. وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ( الفرقان- 63 ) ، ( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) انقص من صوتك، وقال مقاتل: اخفض صوتك ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ ) أقبح الأصوات، ( لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) أوله زفير وآخره شهيق، وهما صوت أهل النار.

وقال موسى بن أعين: سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) قال: صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار . وقال جعفر الصادق في قوله: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) قال: هي العطسة القبيحة المنكرة. قال وهب: تكلم لقمان باثنى عشر ألف باب من الحكمة، أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم وحكمه: قال خالد الربعي: كان لقمان عبدًا حبشيًا فدفع مولاه إليه شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها، فأتاه باللسان والقلب، ثم دفع إليه شاة أخرى، وقال: اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب، فسأله مولاه، فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .