وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 7 )

قوله عز وجل: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ) على الوفاء بما حملوا وأن يُصدِّق بعضهم بعضًا ويبشِّر بعضهم ببعض. قال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدِّق بعضهم بعضًا وينصحوا لقومهم, ( وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل, وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر لما:

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد الحديثي, أخبرنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ, أخبرنا محمد بن محمد بن سليمان الساعدي, أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال, أخبرنا أبي, أخبرنا سعيد - يعني ابن بشير- عن قتادة عن الحسن, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث » .

قال قتادة: وذلك قول الله عز وجل: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) فبدأ به صلى الله عليه وسلم قبلهم.

( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) عهدا شديدا على الوفاء بما حمّلُوا.

لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 9 )

( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) يقول: أخذنا ميثاقهم [ لكي نسأل الصادقين عن صدقهم, يعني النبيين عن تبليغهم ] الرسالة. والحكمة في سؤالهم, مع علمه أنهم صادقون, تبكيت من أرسلوا إليهم.

وقيل: ليسأل الصادقين عن عملهم لله عز وجل. وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم. ( وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ) قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق, ( إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) يعني الأحزاب, وهم قريش, وغطفان, ويهود قريظة, والنضير, ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ) وهي الصَّبَا, قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل, وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصَّبَا

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا آدم, أخبرنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « نصرت بالصَّبَا, وأهلكت عاد بالدَّبُور » .

قوله تعالى: ( وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) وهم الملائكة, ولم تقاتل الملائكة يومئذ, فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد, وقطعت أطناب الفساطيط, وأطفأت النيران, وأكفأت القدور, وجالت الخيل بعضها في بعض, وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إلي, فإذا اجتمعوا عنده قال: النجاءَ النجاءَ, لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال.

( وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) قال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير, عن عروة بن الزبير ومن لا اتَّهم, عن عبد الله بن كعب بن مالك, وعن الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, عن عبد الله بن أبي بكرة بن محمد بن عمرو بن حزم, وعن محمد بن كعب القرظي, وعن غيرهم من علمائنا, دخل حديث بعضهم في بعض: أن نفرا من اليهود, منهم سلام بن أبي الحقيق, وحيي بن أخطب, وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق, وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي, في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل, وهم الذين حزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله, فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد, فديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه, وأنتم أولى بالحق منهم, قال: فهم الذين أنـزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ , إلى قوله: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( النساء 51- 55 ) .

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله, فأجمعوا لذلك, ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس غيلان, فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه, وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك, فأجابوهم.

فخرجت قريش, وقائدها أبو سفيان بن حرب, وخرجت غطفان, وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في فزارة, والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة, ومسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة.

وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي, وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر, فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا عليها, فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني, أخبرنا محمد بن جعفر الطبري, حدثنا حماد بن الحسن, حدثنا محمد بن خالد بن عثمة, حدثنا كثير بن عبد الله, عن عمرو بن عوف, حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا, قال: فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا, فقال المهاجرون: سلمان منا, وقال الأنصار: سلمان منا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « سلمان منا أهل البيت » .

قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المازني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب أخرج الله في بطن الخندق صخرة مرورة كسرت حديدنا وشقت علينا, فقلنا: يا سلمان إرقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة, فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب, وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه, قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية, فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير, فمرنا فيها بأمرك, فإنا لا نحب أن نجاوز خطك, فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شق الخندق, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - يعني المدينة- حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرا فتح وكبر المسلمون, ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون, ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها, وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح, وكبر المسلمون, فأخذ بيد سلمان ورقى, فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط, فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: « أرأيتم ما يقول سلمان » ؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: « ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم, أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب, فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها, ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم, أضاءت لي منها قصور الحيرة من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب, فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها, ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم, أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب, وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها, فأبشروا » , فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعدَ صدقٍ, وُعِدْنَا النصر بعد الحصر, فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى, وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ قال فنـزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ، وأنـزل الله هذه القصة: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية ( آل عمران- 26 ) .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا عبد الله بن محمد, أخبرنا معاوية بن عمرو, أخبرنا أبو إسحاق, عن حميد قال: سمعت أنسًا يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غَدَاةٍ باردة, فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم, فلما رأى ما بهم من النَّصَبِ والجوع, قال: « اللهم إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة, فاغفِرْ للأنصار والمهاجِرَةْ » , فقالوا مجيبين له:

نحــنُ الــذين بــايَعُوا محــمدًا عــلى الجهــادِ مــا بَقِيْنَـا أبـدا

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا مسلم بن إبراهيم, أخبرنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغْمَرَ بطنه - أو اغبرَّ- وهو يقول:

واللـه لـــولا الله مــا اهتدَيْنــا ولا تَصَدَّقْنَـــــا ولا صَلَّيْنَــــا

فـــأَنـزلَنْ ســـكينةً علينـــا وثَبِّـــتِ الأقـــدامَ إن لاقَيْنَـــا

إنَّ الألَـــى قــد بَغَــوا علينــا إذا أرادوا فِتْنَـــــةً أَبَيْنَـــــا

ويرفع بها صوته: أبينا أبينا .

رجعنا إلى حديث ابن إسحاق, قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نـزلت بمجتمع الأسيال من رُوْمَة من الجُرُفِ والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم, ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة, وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد, حتى نـزلوا بذنب نَقْمَى إلى جانب أُحد, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين, فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام.

وخرج عدو الله حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِيّ, صاحب عقد بني قريظة وعهدهم, وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك, فلما سمع كعب بِحُيَي بن أخطب أغلق دونه حصنه, فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له, فناداه حيي: يا كعب افتح لي, فقال: وَيْحَكَ يا حُيَي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا, فلست بناقضٍ ما بيني وبينه, ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقًا. قال: ويحك افتح لي أكلمك, قال: ما أنا بفاعل, قال: والله إنْ أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها, فاحْفَظ الرجلَ, ففتح له, فقال:ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام, جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنـزلتهم بمجتمع الأسيال من رُوْمة, وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنـزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أُحد, قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا ومن معه. قال له كعب بن أسد: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه برعد وبرق, وليس فيه شيء, فدعني ومحمدًا وما أنا عليه, فإني لم أرَ من محمد إلا صدقًا ووفاءً, فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له, على أن أعطاه من الله عهدًا وميثاقًا. لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك, فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ وإلى المسلمين, بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ, أحد بني عبد الأشهل, وهو يومئذ سيد الأوس, وسعدَ بن عبادة أحد بني ساعدة, وهو يومئذ سيد الخزرج, ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج, وخُوَّات بن جبير, أخو بني عمرو بن عوف, فقال: انطلقوا حتى تنظروا, أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه, ولا تفتُّوا في أعضاد الناس, وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهرًا للناس, فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم, ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد, فشاتمتهم سعد بن عبادة وشاتموه, وكان رجلا فيه حدة, فقال له سعد بن معاذ: دعْ عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة, ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا: عضَلٌ والقارة, لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين.

وعظم عند ذلك البلاءُ واشتدَّ الخوف, وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كلَّ ظن, ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال مُعَتِّبُ بن قُشَيْرِ, أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر, وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط, ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا, وحتى قال أوس بن قيظي, أحد بني حارثة بن قيظي: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه, فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة.

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون عليه بضعًا وعشرين ليلة قريبًا من شهر, ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى.

فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حفص, والى الحارث بن عمر, وهما قائدا غطفان, فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فجرى بينه وبينهم الصلح, حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة, فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ, وسعد بن عبادة, واستشارهما فيه, فقالا يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه, أم شيء تصنعه لنا؟ قال: لا بل [ شيء أصنعه ] لكم, والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب, فأدرت أن أكْسِر عنكم شوكتهم, فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان, لا نعبد الله ولا نعرفه, وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً واحدة إلا قِرًى أو بيعًا, فحين أكرمنا الله بالإسلام, وأعزَّنا بك نعطيهم اموالنا! مالنا بهذا من حاجة, والله لا نعطيهم إلا السيف, حتى يحكم الله بيننا وبينهم, [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة, فمحا ما فيها من الكتابة, ثم قال: ليجهدوا علينا.

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, وعدوُّهم محاصروهم, ولم يكن بينهم قتال, إلا أن فوارس من قريش, منهم عمرو بن عبد ود, أخو بني عامر بن لؤي, وعكرمة بن أبي جهل, وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان, ونوفل بن عبد الله, وضرار بن الخطاب, ومرداس أخو بني محارب بن فهر, قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة, فستعلمون اليوم مَنِ الفرسانُ, ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.

ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا فضربوا خيولهم فاقتحمت منه, فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلْع, وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم, وأقبلت الفرسان تُعْنِقُ نحوهم, وكان عمرو بن عبد ودّ وقاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة, [ فلم يشهد أحدًا ] فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلَمًا ليُرَى مكانه, فلما وقف هو وخيله, قال له علي: يا عمرو إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلَّتين إلا أخذت منه إحداهما, قال: أجل, فقال له علي بن أبي طالب: فإني أدعوك إلى الله والى رسوله وإلى الإسلام, قال: لا حاجة لي بذلك, قال: فإني أدعوك إلى البراز قال: ولِمَ يا ابن أخي, فوالله ما أُحبُّ أن اقتلك, قال علي: ولكني والله أحب أن أقتلك, فحمي عمرو عند ذلك, فاقتحم عن فرسه, فعقره وضرب وجهه, ثم أقبل على علي, فتناولا وتجاولا فقتله عليٌّ, فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة, وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار, أصابه سهم, فمات منه بمكة, ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي, وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة, فقال: يا معشر العرب قتله أحسن من هذه, فنـزل إليه علي فقتله, فغلب المسلمون على جسده, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا في جسده وثمنه, فشأنكم به, فخلّى بينهم وبينه.

قالت عائشة أم المؤمنين: كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة, وكان من أحرز حصون المدينة, وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن, وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب, فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلَّصَة, قد خرجت منها ذراعه كلها, وفي يده حربة وهو يقول:

لَبِّــثْ قليـلا نـدركِ الهيجـا حَـمَل لا بــأسَ بـالموتِ إذا حـانَ الأجَـلْ

فقالت له أمه: الحق يا بني فقدْ والله أجزت, قالت عائشة فقلت لها: يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي, قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه, قالت: فرمي سعد يومئذ بسهم, وقُطع منه الأكْحَلُ, رماه خباب بن قيس بن العَرِقَة, أحد بني عامر بن لؤي, فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة, فقال سعد: عرّق الله وجهك في النار, ثم قال سعد: اللهم أن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها, فإنه لا قوم أحب إليّ من أن أجاهدهم من قومٍ آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه, وإن كنت قد وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فأجعله لي شهادة ولا تُمِتِني حتى تُقِرّ عيني من بني قريظة وكانوا خلفاءه ومواليه في الجاهلية .

وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبَّاد قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع, حصن حسان بن ثابت, قالت: وكان حسان معنا فيه, مع النساء والصبيان, قالت صفية: فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن, وقد حاربت بنو قريظة, فقطعت ما بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم, لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم, إذا أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسان, إن هذا اليهودي كما ترى, يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا مَنْ وراءنا من يهود, وقد شُغل عنَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأنـزلْ إليه فاقتله, فقال: يغفر الله لك يابنة عبد المطلب, والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا, قالت: فلما قال لي ذلك ولم أرَ عنده شيئًا اعتجرت, ثم أخذت عمودًا, ثم نـزلت من الحصن إليه, فضربته بالعمود حتى قتلته, فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن, فقلت: يا حسان أنـزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل, قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب .

قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهرِ عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي, فمرني بما شئت, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذِّل عنّا إنِ استطعتَ, فإن الحرب خُدْعة, فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة, وكان لهم نديمًا في الجاهلية, فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم وُدي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم, قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم, فقال لهم: إن قريشًا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه, وإن قريشًا وغطفان ليسوا كهيئتكم, البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكمُ لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره, وإن قريشا وغطفان, أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة, إن رأوا نُهْزَةً وغنيمة أصابوها, وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل, والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم, فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم, يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدًا, حتى تناجزوه. قالوا: لقد أشرت برأي ونصح.

ثم خرج حتى أتى قريشًا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم وُدي إيّاكم وفراقي محمدا, وقد بلغني أمرٌ رأيت أن حقًا عليّ أن أبلغكم نصحًا لكم, فاكتموا عليّ, قالوا: نفعل, قال: تعلمون أن معشر يهود قد نَدمُوا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد, وقد أرسلوا إليه: أن قد نَدِمنا على ما فعلنا, فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين, من قريش وغطفان, رجالا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسلَ إليهم: أنْ نَعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رُهُنًا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدًا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان, أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي, ولا أراكم تتهموني, قالوا: صدقت, قال: فاكتموا علي, قالوا: نفعل, ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم, فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس, وكان مما صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم, أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان, فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام, قد هلك الخف والحافر, فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدًا ونفرغ مما بيننا وبينه, فقال بنو قريظة لهم: إن اليوم السبت, وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا, وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثًا فأصابه ما لم يخف عليكم, ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُنًا من رجالكم, يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدًا, فإنا نخشى إن ضرَسَتْكم الحربُ واشتدَّ عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا, والرجل في بلدنا, ولا طاقة لنا بذلك من محمد, فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة, قالت قريش وغطفان: تعلمُنَّ والله أن الذي حدَّثكم نعيم بن مسعود لحُقُّ, فأرسلوا إلى بني قريظة: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدًا من رجالنا, فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا, فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لَحَقُّ, ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا, فإن وجدوا فرصة انتهزوها, وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم, وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم, فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُنًا, فأبوا عليهم, وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد, فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.

فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.

روى محمد بن إسحاق, عن يزيد بن أبي زياد, عن محمد بن كعب القرظي, وروى غيره عن إبراهيم التميمي, عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه, قال نعم يا ابن أخي, قال: كيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد, فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه, وفعلنا وفعلنا, فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتُني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة؟ فما قام منّا رجل, ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيًّا من الليل, ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم, وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيًّا من الليل, ثم التفت إلينا فقال: مَنْ رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة, فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد, فلما لم يقم أحد دعاني, رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا حذيفة, فلم يكن لي بدُّ من القيام إليه حين دعاني, فقلت: لبيك يا رسول الله وقمت حتى آتيه, وإن جنبيّ ليضطربان, فمسح رأسي ووجهي, ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا حتى ترجع إليّ, ثم قال اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, ومن فوقه ومن تحته فأخذتُ سهمي, وشددت عليّ سلاحي, ثم انطلقتُ أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام, فذهبت فدخلت في القوم, وقد أرسل الله عليهم ريحًا وجنودًا لله تفعل بهم ما تفعل, لا تُقرّ لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناءً, وأبو سفيان قاعد يصطلي, فأخذت سهمًا فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه, ولو رميتُه لأصبتُه, فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحدثنّ حدثًا حتى ترجع إليّ, فرددت سهمي في كنانتي. فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم, لا تقرّ لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء, قام فقال: يا معشر قريش ليأخذْ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو, فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت, فقال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان ابن فلان, فإذا هو رجل من هوازن.

فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف واخلفَتْنَا بنو قريظة, وبلغَنا منهم الذي نكره, ولقينا من هذه الريح ما ترون, فارتحلوا فإني مرتحل, ثم قال إلى جمله وهو معقول فجلس عليه, ثم ضربه فوثب به على ثلاث, فما أطلق عقاله إلا وهو قائم وسمعت غطفان بما فعلتْ قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.

قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي, فلما سلم أخبرته الخبر, فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل, قال: فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء . فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم منه, وأنامني عند رجليه, وألقى عليّ طرف ثوبه, وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائمًا حتى أصبحت فلما أصبحت قال: قمْ يا نومان .

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ( 10 ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ( 11 )

قوله عز وجل: ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ) أي: من فوق الوادي من قِبَلٍ المشرق, وهم أسد, وغطفان, وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان, ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة, ( وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) يعني: من بطن الوادي, من قِبَل المغرب, وهم قريش وكنانة, عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومَنْ تبعه, وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق.

وكان الذي جر غزوة الخندق - فيما قيل- إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم.

( وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ ) مالت وشخصت من الرعب, وقيل: مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها, ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع, والحَنْجَرة: جوف الحلقوم, وهذا على التمثيل, عبّر به عن شدة الخوف, قال الفراء: معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة, ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره.

( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) أي: اختلفت الظنون؛ فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي عنهم, وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.

قرأ أهل المدينة والشام وأبو بكر: « الظنونا » و « الرسولا » و « السبيلا » بإثبات الألف وصلا ووقفًا, لأنها مثبتة في المصاحف, وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل, وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤس الآي. ( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ ) أي: عند ذلك اختبر المؤمنون, بالحصر والقتال, ليتبين المخلص من المنافق, ( وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ) حُرّكوا حركة شديدة.

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ( 12 ) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ( 13 ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ( 14 )

( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ) معتِّب بن قشير, وقيل: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه, ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) شك وضعف اعتقاد: ( مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) وهو قول أهل النفاق: يَعِدُنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوزَ رحله, هذا والله الغرور. ( وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ) أي: من المنافقين, وهم أوس بن قيظي وأصحابه, ( يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ) يعني المدينة, قال أبو عبيدة: « يثرب » : اسم أرضٍ, ومدينةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحيةٍ منها.

وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب, وقال: « هي طابة » , كأنه كره هذه اللفظة .

( لا مُقَامَ لَكُمْ ) قرأ العامة بفتح الميم, أي: لا مكانه لكم تنـزلون وتقيمون فيه, وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي, وحفص: بضم الميم, أي: لا إقامة لكم, ( فَارْجِعُوا ) ؛ إلى منازلكم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وقيل: عن القتال إلى مساكنكم.

( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ) وهم بنو حارثة وبنو سلمة, ( يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي: خالية ضائعة, وهو مما يلي العدو نخشى عليها السرّاق. وقرأ أبو رجاء العطاردي « عَوِرَة » بكسر الواو, أي: قصيرة الجدران يسهل دخول السراق عليها, فكذبهم الله فقال: ( وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ) أي: ما يريدون إلا الفرار. ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ) أي: لو دَخَلَتْ عليهم المدينة, يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم, وهم الأحزاب, ( مِنْ أَقْطَارِهَا ) جوانبها ونواحيها جمع قطر, ( ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ) أي: الشرك. ( لآتَوْهَا ) لأعطوها, وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصورًا, أي: لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام, ( وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ) أي: ما احتبسوا عن الفتنة, ( إِلا يَسِيرًا ) ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به أنفسهم, هذا قول أكثر المفسرين.

وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا .

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ( 15 )

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل غزوة الخندق, ( لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ ) من عدوهم أي: لا ينهزمون, قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة, هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة, فلما نـزل فيهم ما نـزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها .

وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر [ ورأوا ما أعطى الله أهل بدر ] من الكرامة والفضيلة قالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن, فساق الله إليهم ذلك .

وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة, وقالوا: أشترط لربك ولنفسك ما شئت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم, قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة, قالوا: قد فعلنا ذلك. فذلك عهدهم .

وهذا القول ليس بمرضي, لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرا, لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول, وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفروا, فنقضوا العهد.

( وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ) عنه.