قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ( 16 )

( قُلْ ) لهم, ( لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ) الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل, ( وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا )

أي: لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل.

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 17 ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ( 18 ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 19 )

( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ ) أي: يمنعكم من عذابه, ( إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا ) هزيمة, ( أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) نصرة, ( وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ) أي: قريبا ينفعهم, ( وَلا نَصِيرًا ) أي: ناصرا يمنعهم. ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) أي: المثبطين للناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ) أي: ارجعوا إلينا, ودعوا محمدا, فلا تشهدوا معه الحرب, فإنا نخاف عليكم الهلاك.

قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين, كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم, ويقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس, ولو كانوا لحما لالتهمهم, أي: ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه, دعوا الرجل فإنه هالك .

وقال مقاتل: نـزلت في المنافقين, وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين, وقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه, فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا, وإنا نشفق عليكم, أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا, فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه, وقالوا: لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد؟ ما عنده خير, ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا, انطلقوا بنا إلى إخواننا, يعني اليهود, فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا .

قوله عز وجل: ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ ) الحرب ( إِلا قَلِيلا ) رياء وسمعة من غير احتساب, ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا . ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة, وقال قتادة: بخلاء عند الغنيمة, وصفهم الله بالبخل والجبن, فقال: ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ) في الرءوس من الخوف والجبن ( كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وذلك أن من قرب من الموت غشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره, فلا يطرف, ( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ ) آذوكم ورموكم في حال الأمن, ( بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) ذربة, جمع حديد. يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان: مسلق ومصلق وسلاق وصلاق. قال ابن عباس: سلقوكم أي: عضدوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة. وقال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة, يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال, فلستم أحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم, ( أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ) أي: عند الغنيمة يشاحون المؤمنين, ( أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ) قال مقاتل: أبطل الله جهادهم, ( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )

يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ( 20 ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( 21 )

( يَحْسَبُونَ ) يعني هؤلاء المنافقين, ( الأحْزَابَ ) يعني: قريشا وغطفان واليهود, ( لَمْ يَذْهَبُوا ) لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا, ( وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ ) أي: يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب, ( يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ ) أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن, يقال: بدا يبدو بداوة, إذا خرج إلى البادية, ( يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ) أخباركم وما آل إليه أمركم, وقرأ يعقوب: « يساءلون » مشددة ممدودة, أي: يتساءلون, ( وَلَوْ كَانُوا ) يعني: هؤلاء المنافقين, ( فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ) تعذيرا, أي: يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم, فيقولون قد قاتلنا. قال الكلبي: إلا قليلا أي: رميا بالحجارة. وقال مقاتل: إلا رياء وسمعة من غير احتساب . قوله عز وجل: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) قرأ عاصم: « أسوة » حيث كان, بضم الهمزة, والباقون بكسرها, وهم لغتان, أي: قدوة صالحة, [ وهي فعلة من الائتساء ] كالقدوة من الاقتداء, اسم وضع موضع المصدر, أي: به اقتداء حسن إن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه, وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه, وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى, فواساكم مع ذلك بنفسه, فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته, ( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ) بدل من قوله: « لكم » وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين, يعني: أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله, قال ابن عباس: يرجو ثواب الله. وقال مقال: يخشى الله ( وَالْيَوْمَ الآخِرِ ) أي: يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال, ( وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) في جميع المواطن على السراء والضراء.

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( 22 )

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا ) تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده: ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( البقرة- 214 ) , فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء, فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله, ( وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) [ أي: تصديقا لله وتسليما لأمر الله ] .