قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ( 32 ) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 33 )

( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) أجابهم المتبوعون في الكفر, ( لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) بترك الإيمان. ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي: مكركم بنا في الليل والنهار, والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام؟ كما قال الشاعر:

وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ

وقيل: مكر الليل والنهار هو طول السلامة وطول الأمل فيهما, كقوله تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحديد- 16 ) .

( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا ) أظهروا ( النَّدَامَةَ ) وقيل: أخفوا, وهو من الأضداد, ( لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) في النار الأتباع والمتبوعين جميعا. ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من الكفر والمعاصي في الدنيا.

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 34 ) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 35 ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 36 )

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) رؤساؤها وأغنياؤها, ( إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) ( وَقَالُوا ) يعني: قال المترفون للفقراء الذين آمنوا: ( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا ) ولو لم يكن الله راضيًا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد, ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) أي: إن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا. ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) يعني: أن الله يبسط الرزق ويقدر ابتلاء وامتحانًا لا يدل البسط على رضا الله عنه ولا التضييق على سخطه, ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أنها كذلك.

وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( 37 ) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 38 ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 39 )

( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) أي: قربى, قال الأخفش: « قربى » اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبًا, ( إِلا مَنْ آمَنَ ) يعني: لكن من آمن, ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) قال ابن عباس: يريد إيمانه وعمله يقربه مني, ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا ) أي: يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة قرأ يعقوب: « جزاء » منصوبا منونا « الضعف » رفع, تقديره: فأولئك لهم الضعف جزاء, وقرأ العامة بالإضافة, ( وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) قرأ حمزة: « في الغرفة » على واحدة, وقرأ الآخرون بالجمع لقوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ( العنكبوت- 58 ) . ( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ ) يعملون, ( فِي آيَاتِنَا ) في إبطال حجتنا, ( مُعَاجِزِينَ ) معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا, ( أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ) ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) أي: يعطي خلفه, قال سعيد بن جبير: ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه.

وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو يخلفه على المنفق, إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة.

( وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) خير من يعطي ويرزق.

وروينا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى قال: أنفق أنفق عليك » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إسماعيل, حدثنا أبي, عن سليمان هو ابن بلال, عن معاوية بن أبي مزرد, عن أبي الحبحاب, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينـزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفًا, ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفا » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, أخبرنا حميد بن زنجويه, أخبرنا ابن أبي أويس, أخبرنا عبد العزيز بن محمد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما نقصت صدقة من مال, وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا, وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, أخبرنا حميد ابن زنجويه, أخبرنا أبو الربيع, أخبرنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي, أخبرنا محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل معروف صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة, وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة » , قلت: ما يعني وقى الرجل عرضه؟ قال: « ما أعطى الشاعر وذا اللسان للمتقى, وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا ما كان من نفقة في بنيان أو في معصية الله عز وجل » .

قوله: « قلت ما يعني » يقول عبد الحميد لمحمد بن المنكدر.

قال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد, ولا يتأول هذه الآية: « ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) » , فإن الرزق مقسوم لعل رزقه قليل, وهو ينفق نفقة الموسع عليه. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه.