سورة الصافات

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 )

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) قال ابن عباس, والحسن, وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز القاشاني, أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي, أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي, حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث, حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي, حدثنا زهير قال: سألت سليمان الأعمش عن حديث جابر بن سمرة في الصفوف المقدمة فحدثنا عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم » ؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: « يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف » .

وقيل: هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد.

وقيل: هي الطيور ، دليله قوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( النور - 41 ) .

قوله تعالى ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) يعني: الملائكة تزجر السحاب وتسوقه, وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبائح.

فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 ) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 ) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 )

( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) هم الملائكة يتلون ذكر الله عز وجل. وقيل: هم جماعة قراء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله تعالى به, وموضع القسم قوله:

( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وقيل: فيه إضمار, أي: ورب الصافات والزاجرات والتاليات, وذلك أن كفار مكة قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ؟ فأقسم الله بهؤلاء: « إن إلهكم لواحد » .

( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) أي: مطالع الشمس [ قيل: أراد به المشارق والمغارب, كما قال في موضع آخر: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( المعارج- 40 ) ]

فإن قيل: قد قال في موضع: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ , وقال في موضع: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( الرحمن - 17 ) وقال في موضع: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( المزمل - 9 ) , فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات؟

قيل: أما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ , أراد به الجهة, فالمشرق جهة والمغرب جهة.

وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أراد: مشرق الشتاء ومشرق الصيف, وأراد بالمغربين: مغرب الشتاء ومغرب الصيف.

وقوله: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أراد الله تعالى أنه خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق, وثلاثمائة وستين كوة في المغرب, على عدد أيام السنة, تطلع الشمس كل يوم من كوة منها, وتغرب في كوة منها, لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل, فهي المشارق والمغارب, وقيل: كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب, كأنه أراد رب جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت.

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ )

قرأ عاصم, برواية أبي بكر: « بزينة » منونة « الكواكب » نصب, أي: بتزييننا الكواكب, وقرأ حمزة, وحفص: « بزينة » منونة, « الكواكب » خفضا على البدل, أي: بزينة بالكواكب, أي: زيناها بالكواكب. وقرأ الآخرون: « بزينة الكواكب » , بلا تنوين على الإضافة.

قال ابن عباس: بضوء الكواكب.

وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 ) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 ) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ( 11 )

( وَحِفْظًا ) أي: وحفظناها حفظا ( مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ) متمرد يرمون بها. ( لا يَسْمَعُونَ ) قرأ حمزة, والكسائي, وحفص: « يسمعون » بتشديد السين والميم, أي: لا يتسمعون, فأدغمت التاء في السين, وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم, ( إِلَى الْمَلإ الأعْلَى ) أي: إلى الكتبة من الملائكة.

و « الملأ الأعلى » هم الملائكة لأنهم في السماء, ومعناه: أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى, ( وَيُقْذَفُونَ ) يرمون, ( مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) من آفاق السماء بالشهب.

( دُحُورًا ) يبعدونهم عن مجالس الملائكة, يقال: دحره دحرا ودحورا, إذا طرده وأبعده, ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ )

دائم, قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى, لأنهم يحرقون ويتخبلون.

( إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ) اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة, ( فَأَتْبَعَهُ ) لحقه, ( شِهَابٌ ثَاقِبٌ )

كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتله, أو يحرقه أو يخبله, وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد, كراكب البحر، قال عطاء: سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم .

( فَاسْتَفْتِهِم ) أي: سلهم, يعني: أهل مكة, ( أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ) يعني: من السموات والأرض والجبال, وهذا استفهام بمعنى التقرير, أي: هذه الأشياء أشد خلقا كما قال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر - 57 ) وقال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( النازعات - 27 ) .

وقيل: « أم من خلقنا » يعني: من الأمم الخالية, لأن « من » يذكر فيمن يعقل, يقول: إن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم, وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان, فقال:

( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يعني: جيد حر لاصق يعلق باليد, ومعناه اللازم, أبدل الميم باء كأنه يلزم اليد. وقال مجاهد والضحاك: منتن.

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ( 12 ) وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ( 13 ) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ( 14 ) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 15 )

( بَلْ عَجِبْتَ ) قرأ حمزة, والكسائي: بضم التاء, وهي قراءة ابن مسعود, وابن عباس والعجب من الله عز وجل ليس كالتعجب من الآدميين, كما قال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ( التوبة - 79 ) , وقال عز وجل: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة - 67 ) , فالعجب من الآدميين: إنكاره وتعظيمه, والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم, وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: « عجب ربكم من شاب ليست له صبوة » .

وجاء في الحديث: « عجب ربكم من سؤالكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم »

وسئل الجنيد عن هذه الآية, فقال: إن الله لا يعجب من شيء, ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ( الرعد - 5 ) أي: هو كما تقوله.

وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: أي: عجبت من تكذيبهم إياك, ( وَيَسْخَرُونَ ) من تعجبك.

قال قتادة: عجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنـزل وضلال بني آدم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به, فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به, فعجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله تعالى: « بل عجبت ويسخرون » .

( وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.

( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً ) قال ابن عباس ومقاتل: يعني انشقاق القمر ( يَسْتَسْخِرُونَ ) يسخرون ويستهزءون, وقيل: يستدعي بعضهم عن بعض السخرية .

( وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [ يعني سحر بين ] .

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 16 ) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 17 ) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ( 18 ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ( 19 ) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ( 20 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 21 ) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 22 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 23 ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ( 24 )

( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )

( أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ ) أي: وآباؤنا الأولون.

( قُلْ نَعَمْ ) تبعثون, ( وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ) صاغرون, والدخور أشد الصغار.

( فَإِنَّمَا هِيَ ) أي: قصة البعث أو القيامة, ( زَجْرَةٌ ) أي: صيحة, ( وَاحِدَة ) يعني: نفخة البعث, ( فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) أحياء.

( وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) أي: يوم الحساب ويوم الجزاء.

( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ) يوم القضاء, وقيل: يوم الفصل بين المحسن والمسيء, ( الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي: أشركوا, اجمعوهم إلى الموقف للحساب والجزاء, ( وَأَزْوَاجَهُم ) أشباههم وأتباعهم وأمثالهم.

قال قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم, فأهل الخمر مع أهل الخمر, وأهل الزنا مع أهل الزنا.

وقال الضحاك ومقاتل: قرناءهم من الشياطين, كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن: وأزواجهم المشركات.

( وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * من دُونِ الله ) في الدنيا, يعني: الأوثان والطواغيت. وقال: مقاتل: يعني إبليس وجنوده, واحتج بقوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ( يس - 60 ) .

( فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النار. وقال ابن كيسان: قدموهم. والعرب تسمي السابق هاديا.

( وَقِفُوهُمْ ) احبسوهم, يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا.

قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط, فقيل: وقفوهم ( إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) قال ابن عباس: عن جميع أقوالهم وأفعالهم.

وروي عنه عن: لا إله إلا الله.

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة أشياء: عن شبابه فيما أبلاه, وعن عمره فيما أفناه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به » .