مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ( 25 ) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( 26 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 27 ) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( 28 ) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 29 )

( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) أي: لا تتناصرون، يقال لهم توبيخًا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا, يقول لهم خزنة النار, هذا جواب لأبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( القمر - 44 ) .

فقال الله تعالى: ( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن: منقادون, يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع له, والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم.

( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي: الرؤساء والأتباع ( يتساءلون ) يتخاصمون.

( قَالُوا ) أي: الأتباع للرؤساء, ( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) أي: من قبل الدين فتضلوننا عنه [ وتروننا أن الدين ما تضلوننا به ] قاله الضحاك. وقال مجاهد: عن الصراط الحق, واليمين عبارة عن الدين والحق, كما أخبر الله تعالى عن إبليس: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ( الأعراف - 17 ) فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق.

وقال بعضهم: كان الرؤساء يحلفون لهم أن ما يدعونهم إليه هو الحق, فمعنى قوله: « تأتوننا عن اليمين » أي: من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها.

وقيل: « عن اليمين » أي: عن القوة والقدرة, كقوله: لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة - 45 ) , والمفسرون على القول الأول.

( قَالُوا ) يعني: الرؤساء للأتباع, ( بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه, أي: إنما الكفر من قبلكم.

وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ( 30 ) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 ) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( 32 ) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 33 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 34 ) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( 35 ) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ( 36 ) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( 37 ) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ( 38 ) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 39 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 40 ) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ( 41 )

( وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا, ( بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ) ضالين.

( فَحَقَّ ) وجب, ( عَلَيْنَا ) جميعا, ( قَوْلُ رَبِّنَا ) يعني: كلمة العذاب, وهي قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة - 13 ) ( إِنَّا لَذَائِقُونَ ) العذاب, أي: أن الضال والمضل جميعا في النار.

( فَأَغْوَيْنَاكُم ) فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ( إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) ضالين. قال الله عز وجل: ( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) الرؤساء والأتباع.

( إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء.

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) يتكبرون عن كلمة التوحيد, ويمتنعون منها. ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الله عز وجل ردا عليهم: ( بَلْ جَاءَ ) محمد, ( بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) أي: أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله.

( إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا من الشرك.

( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الموحدين.

( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ ) يعني: بكرة وعشيا [ كما قال: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( مريم - 62 ) ] .

فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ( 42 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 43 ) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 44 ) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 45 ) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ( 46 ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ( 47 ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( 48 ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( 49 )

( فَوَاكِهُ ) جمع الفاكهة, وهي الثمار كلها رطبها ويابسها, وهي كل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت, ( وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) بثواب الله.

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) لا يرى بعضهم قفا بعض.

( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ ) إناء فيه شراب ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب, وإلا فهو إناء, ( مِنْ مَعِينٍ ) خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون.

( بَيْضَاءَ ) قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن, ( لَذَّة ) أي: لذيذة, ( لِلشَّارِبِينَ ) .

( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال الشعبي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. قال الكلبي: إثم. وقال قتادة: وجع البطن. وقال الحسن: صداع.

وقال أهل المعاني: « الغول » فساد يلحق في خفاء, يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد منها السكر وذهاب العقل, ووجع البطن, والصداع, والقيء, والبول, ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة.

( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قرأ حمزة والكسائي: « ينـزفون » بكسر الزاي, وافقهما عاصم في الواقعة, وقرأ الآخرون بفتح الزاي فيهما, فمن فتح الزاي فمعناه: لا يغلبهم على عقولهم ولا يسكرون يقال: نـزف الرجل فهو منـزوف ونـزيف, إذا سكر, ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم, يقال: أنـزف الرجل فهو منـزوف, إذا فنيت خمره.

( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) حابسات الأعين غاضات الجفون, قصرن أعينهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم, ( عِينٌ ) أي: حسان الأعين, يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ونساء عين.

( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ ) [ جمع البيضة ] ( مَكْنُونٌ ) مصون مستور, وإنما ذكر « المكنون والبيض » جمع لأنه رده إلى اللفظ.

قال الحسن: شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار, فلونها أبيض في صفرة. ويقال: هذا أحسن ألوان النساء أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة, والعرب تشبهها ببيضة النعامة.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 50 ) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( 51 )

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) يعني: أهل الجنة في الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا.

( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ) يعني: من أهل الجنة: ( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) في الدنيا ينكر البعث.

قال مجاهد: كان شيطانًا. وقال الآخرون: كان من الإنس . وقال مقاتل: كانا أخوين. وقال الباقون: كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس, والآخر مؤمن اسمه يهوذا, وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ ( الكهف - 32 ) .