وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 )

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ) قال ابن عباس: لا لثواب ولا لعقاب. ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني: أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء, وأنه لا بعث ولا حساب ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة من الخير ما يعطون, فنـزلت هذه الآية ( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [ أي المؤمنين كالكفار ] وقيل: أراد بالمتقين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, أي: لا نجعل ذلك.

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 ) وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 )

( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) أي: هذا الكتاب أنـزلناه إليك, ( مُبَارَكٌ ) كثير خيره ونفعه, ( لِيَدَّبَّرُوا ) أي: ليتدبروا, ( آيَاتِه ) وليتفكروا فيها, قرأ أبو جعفر « لتدبروا » بتاء واحدة وتخفيف الدال, قال الحسن: تدبر آياته: اتباعه ( وَلِيَتَذَكَّرَ ) ليتعظ, ( أُولُو الألْبَابِ ) .

قوله عز وجل: ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) .

قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين, فأصاب منهم ألف فرس.

وقال مقاتل: ورث من أبيه داود ألف فرس .

وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا أخرجت من البحر لها أجنحة .

[ قالوا: ] فصلى سليمان الصلاة الأولى, وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه, فعرضت عليه تسعمائة, فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت, وفاتته الصلاة, ولم يعلم بذلك فاغتم لذلك هيبة لله, فقال: ردوها عليّ, فردوها عليه, فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى الله عز وجل, وطلبًا لمرضاته, حيث اشتغل بها عن طاعته, وكان ذلك مباحًا له وإن كان حرامًا علينا, كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام, وبقي منها مائة فرس، فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل يقال من نسل تلك المائة.

قال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله عز وجل خيرًا منها وأسرع, وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء.

[ وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرسًا. وعن عكرمة: كانت عشرين ألف فرس, لها أجنحة ] .

قال الله تعالى: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) و « الصافنات » : هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم وأقامت واحدة على طرف الحافر من يد أو رجل, يقال: صفن الفرس يصفن صفونًا: إذا قام على ثلاثة قوائم, وقلب أحد حوافره. وقيل: الصافن في اللغة القائم. وجاء في الحديث: « من سره أن يقوم له الرجال صفونًا فليتبوأ مقعده من النار » . أي قيامًا والجياد: الخيار السراع, واحدها جواد.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الخيل السوابق.

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )

( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) أي: آثرت حب الخير, وأراد بالخير الخيل, والعرب تعاقب بين الراء واللام, فتقول: ختلت الرجل وخترته, أي: خدعته, وسميت الخيل خيرًا لأنه معقود بنواصيها الخير, الأجر والمغنم ، قال مقاتل: حب الخير يعني: المال, فهي الخيل التي عرضت عليه. ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يعني: عن الصلاة وهي صلاة العصر ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) أي: توارت الشمس بالحجاب استترت بما يحجبها عن الأبصار, يقال: الحاجب جبل دون قاف, بمسيرة سنة, والشمس تغرب من ورائه.

( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) أي: ردوا الخيل عليّ, فردوها, ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) قال أبو عبيدة: طفق يفعل, مثل: ما زال يفعل, والمراد بالمسح: القطع, فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف, هذا قول ابن عباس, والحسن, وقتادة, ومقاتل, وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحًا له, لأن نبي الله لم يكن يقدم على محرم, ولم يكن يتوب عن ذنب بذنب آخر.

وقال محمد بن إسحاق: لم يعنفه الله على عقر الخيل إذا كان ذلك أسفًا على ما فاته من فريضة ربه عز وجل.

وقال بعضهم: إنه ذبحها ذبحًا وتصدق بلحومها, وكان الذبح على ذلك الوجه مباحًا في شريعته .

وقال قوم: معناه أنه حبسها في سبيل الله, وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة .

وقال الزهري, وابن كيسان: إنه كان يمسح سوقها وأعناقها بيده, يكشف الغبار عنها حُبًّا لها وشفقة عليها, وهذا قول ضعيف والمشهور هو الأول.

وحكي عن عليّ أنه قال في معنى قوله: « ردوها عليّ » يقول سليمان بأمر الله عز وجل للملائكة الموكلين بالشمس: « ردوها عليّ » يعني: الشمس, فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها, وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو, حتى توارت بالحجاب.

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 )

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.

وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان عليه السلام بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون, بها ملك عظيم الشأن, لم يكن للناس إليه سبيلا لمكانه في البحر, وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر, إنما يركب إليه الريح, فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء, حتى نـزل بها بجنوده من الجن والإنس, فقتل ملكها واستولى واستفاء وسبى ما فيها, وأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك, يقال لها: جرادة, لم ير مثلها حسنًا وجمالا فاصطفاها لنفسه, ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه, وأحبها حبًا لم يحبه شيئًا من نسائه, وكانت على منـزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها, فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب, والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك, قال سليمان: فقد أبدلك الله به مُلكًا هو أعظم من ملكه, وسلطانا هو أعظم من سلطانه, وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله, قالت: إن ذلك كذلك, ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن, فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيًا لرجوت أن يذهب ذلك حزني, وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي, فأمر سليمان الشياطين, فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئًا, فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه, فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس, ثم كان إذا خرج سليمان [ من دارها ] تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له, ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه, وتروح كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحًا, وبلغ ذلك آصف بن برخيا, وكان صديقًا, وكان لا يرد عن أبواب سليمان, أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل, حاضرًا كان سليمان أو غائبًا, فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني, ورق عظمي, ونفد عمري, وقد حان مني الذهاب, فقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم, وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم, فقال: افعل, فجمع له سليمان الناس, فقام فيهم خطيبًا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى, فأثنى على كل نبي بما فيه, فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان, فقال: ما أحلمك في صغرك, وأورعك في صغرك, وأفضلك في صغرك, وأحكم أمرك في صغرك, وأبعدك من كل ما تكره في صغرك, ثم انصرف, فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى ملأه غضبًا, فلما دخل سليمان داره أرسل إليه, فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله, فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم, وعلى كل حال من أمرهم, فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري, وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري؟ فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوى امرأة, فقال: في داري؟ فقال: في دارك, قال: إنا لله وإنا إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك, ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم, وعاقب تلك المرأة وولائدها, ثم أمر بثياب الطهرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار, ولا ينسجها إلا الأبكار, ولا يغسلها إلا الأبكار, لم تمسسها امرأة قد رأت الدم, فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده, فأمر برماد ففرش له, ثم أقبل تائبًا إلى الله عز وجل, حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله تعالى, وتضرعًا إليه يبكي ويدعو, ويستغفر مما كان في داره, فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى, ثم رجع إلى داره, وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة, كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر, وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر, وكان ملكه في خاتمه فوضعه يومًا عندها, ثم دخل مذهبه فأتاها الشيطان صاحب البحر, واسمه صخر, على صورة سليمان لا تنكر منه شيئًا, فقال: خاتمي أمينة! فناولته إياه, فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان, وعكفت عليه الطير والجن والإنس, وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله, وهيئته عند كل من رآه, فقال: يا أمينة خاتمي, قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود, قالت: كذبت فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه, فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته, فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود, فيحثون عليه التراب ويسبونه, ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان, فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر, فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين, فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها, فمكث بذلك أربعين صباحًا عدة ما كان عبد الوثن في داره, فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين, فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم, قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن فهل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته, فدخل على نسائه, فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة, فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة, فلما مضى أربعون صباحًا طار الشيطان عن مجلسه, ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه, فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين, وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك, حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم, فخرج سليمان بسمكتيه, فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة, ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها, فأخذه فجعله في يده, ووقع ساجدًا, وعكفت عليه الطير والجن, وأقبل عليه الناس, وعرف الذي كان قد دخل عليه لما كان قد حدث في داره, فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه, وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذته, فأتي به وجاؤوا له بصخرة فنقرها فأدخله فيها ثم شد عليه بأخرى, ثم أوثقها بالحديد والرصاص, ثم أمر به فقذف في البحر. هذا حديث وهب .

وقال الحسن: ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.

وقال السدي: كان سبب فتنة سليمان أنه كان له مائة امرأة, وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده, وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته, فقالت له يومًا: إن أخي كان بينه وبين فلان خصومة, وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك, فقال: نعم, ولم يفعل فابتلي بقوله, فأعطاها خاتمه ودخل المخرج, فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان, وخرج سليمان عليه السلام فسألها خاتمه فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا وخرج مكانه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يومًا, فأنكر الناس حكمه, فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه, فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا, فإن كان سليمان فقد ذهب عقله, فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا حتى أحدقوا به, ونشروا التوراة فقرؤوها فطار من بين أيديهم, حتى وقع على شرفه, والخاتم معه, ثم طار حتى ذهب إلى البحر, فوقع الخاتم منه في البحر, فابتلعه حوت, وأقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع قد اشتد جوعه, فاستطعمه من صيده, وقال: إني أنا سليمان, فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه, فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر, فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه, وأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم, فشق بطونهما وجعل يغسلهما, فوجد خاتمه في بطن إحداهما, فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه.

وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان, فقاموا يعتذرون مما صنعوا, فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم, هذا أمر كائن لا بد منه, ثم جاء حتى أتى مملكته وأمر حتى أتي بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق من حديد, وأطبق عليه بقفل, وختم عليه بخاتمه, وأمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك حتى الساعة.

وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده, وكان فيه ملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة, فأتى آصف فقال لسليمان: إنك مفتون بذنبك, والخاتم لا يتماسك في يدك [ أربعة عشر يومًا ] ففر إلى الله تائبًا, فإني أقوم مقامك, وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك, ففر سليمان هاربًا إلى ربه, وأخذ آصف الخاتم, فوضعه في أصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى: « وألقينا على كرسيه جسدا » فأقام آصف في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يومًا إلى أن رد الله على سليمان ملكه, فجلس على كرسيه وأعاد الخاتم في يده فثبت .

وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام, فأوحى الله إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عز وجل. فذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما روينا.

وقيل: قال سليمان يومًا لأطوفن الليلة على نسائي كلهن, فتأتي كل واحدة بابن يجاهد في سبيل الله, ولم يستثن, فجامعهن فما خرج له منهن إلا شق مولود, فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه, فذلك قوله تعالى: « وألقينا على كرسيه جسدا » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب, حدثنا أبو الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, فقال له صاحبه: قل إن شاء الله, فلم يقل إن شاء الله, فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة, جاءت بشق رجل, وايم الله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون »

وقال طاووس عن أبي هريرة: لأطوفن الليلة بمائة امرأة, قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل ونسي. وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني ، فذلك قوله عز وجل: ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما فلما رجع.

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 )

( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) قال مقاتل وابن كيسان: لا يكون لأحد من بعدي. قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا تسلبنيه في آخر عمري, وتعطيه غيري كما استلبته في ما مضى من عمري.

( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) قيل: سأل ذلك ليكون آية لنبوته, ودلالة على رسالته, ومعجزة.

وقيل: سأل ذلك ليكون علمًا على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد إليه ملكه, وزاد فيه.

وقال مقاتل بن حيان: كان لسليمان ملكًا ولكنه أراد بقول: « لا ينبغي لأحد من بعدي » تسخير الرياح والطير والشياطين, بدليل ما بعده.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة, عن محمد بن زياد, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي, فأمكنني الله منه, فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد, حتى تنظروا إليه كلكم, فذكرت دعوة أخي سليمان » رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي « فرددته خاسئا » .

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 )

قوله عز وجل: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) لينة ليست بعاصفة, ( حَيْثُ أَصَابَ ) [ حيث أراد ] تقول العرب: أصاب الصواب [ فأخطأ الجواب, تريد أراد الصواب ] .

( وَالشَّيَاطِين ) أي: وسخرنا له الشياطين, ( كُلَّ بَنَّاءٍ ) يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل, ( وَغَوَّاصٍ ) يستخرجون له اللآلئ من البحر, وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.

( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) مشدودين في القيود, أي: وسخرنا له آخرين, يعني: مردة الشياطين, سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد.

( هَذَا عَطَاؤُنَا ) [ أي قلنا له هذا عطاؤنا ] ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المن: هو الإحسان إلى من لا يستثنيه, معناه: أعط من شئت وأمسك عمن شئت, بغيرِ حساب لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت.

قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة, إلا سليمان فإنه أعطى أجر, وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة.

وقال مقاتل: هذا في أمر الشياطين, يعني: خل من شئت منهم, وأمسك من شئت في وثاقك, لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.

وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 ) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )

( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ )

قوله عز وجل: ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) بمشقة وضر.

قرأ أبو جعفر: « بنصب » بضم النون والصاد, وقرأ يعقوب بفتحهما, وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد, ومعنى الكل واحد.

قال قتادة ومقاتل: بنصب في الجسد, وعذاب في المال وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام .

فلما انقضت مدة بلائه قيل له: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) اضرب برجلك الأرض ففعل فنبعت عين ماء, ( هَذَا مُغْتَسَلٌ ) فأمره الله أن يغتسل منها, ففعل فذهب كل داء كان بظاهره, ثم مشى أربعين خطوة, فركض الأرض برجله الأخرى, فنبعت عين أخرى, ماء عذب بارد, فشرب منه, فذهب كل داء كان بباطنه, فقوله: « هذا مغتسل بارد » يعني: الذي اغتسل منه, ( وَشَرَابٌ ) أراد الذي شرب منه.