خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )

( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني: آدم, ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يعني حواء, ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ) معنى الإنـزال هاهنا: الإحداث والإنشاء, كقوله تعالى: أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ( الأعراف- 26 ) .

وقيل: إنه أنـزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس, وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام.

وقيل: « وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ » جعلها لكم نـزلا ورز قًا. ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) أصناف, تفسيرها في سورة الأنعام ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة ثم علقة ثم مضغة, كما قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( نوح- 14 ) ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال ابن عباس: ظلمة البطن, وظلمة الرحم, وظلمة المشيمة ( ذَلِكُمُ اللَّهُ ) الذي خلق هذه الأشياء, ( رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) عن طريق الحق بعد هذا البيان.

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )

( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) قال ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر, وهم الذين قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر- 42 ) فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى, كقوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان- 6 ) يريد بعض العباد, وأجراه قوم على العموم, وقالوا: لا يرضى لأحد من عباده الكفر.

ومعنى الآية: لا يرضى لعباده أن يكفروا به. يروى ذلك عن قتادة, وهو قول السلف, قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله عز وجل, وإن كان بإرادته. ( وَإِنْ تَشْكُرُوا ) تؤمنوا بربكم وتطيعوه, ( يَرْضَهُ لَكُمْ ) فيثيبكم عليه. قرأ أبو عمرو: « يرضه لكم » ساكنة الهاء, ويختلسها أهل المدينة وعاصم وحمزة, والباقون بالإشباع ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) راجعًا إليه مستغيثًا به, ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) أعطاه نعمة منه, ( نَسِي ) ترك ( مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه, ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يعني: الأوثان, ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) ليزل عن دين الله.

( قُل ) لهذا الكافر: ( تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا ) في الدنيا إلى أجلك, ( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) قيل: نـزلت في عتبة بن ربيعة, وقال مقاتل: [ نـزلت ] في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. وقيل: عام في كل كافر .

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )

( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ) قرأ ابن كثير ونافع وحمزة: « أمن » بتخفيف الميم, وقرأ الآخرون بتشديدها, فمن شدد فله وجهان:

أحدهما: أن تكون الميم في « أم » صلة, فيكون معنى الكلام استفهامًا وجوابه محذوفًا مجازه: أمن هو قانت كمن هو غير قانت؟ كقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ( الزمر- 22 ) يعني كمن لم يشرح صدره.

والوجه الآخر: أنه عطف على الاستفهام, مجازه: الذي جعل لله أندادًا خير أمن هو قانت؟ ومن قرأ بالتخفيف فهو ألف استفهام دخلت على من, معناه: أهذا كالذي جعل لله أندادًا؟

وقيل: الألف في « أمن » بمعنى حرف النداء, تقديره: يا من هو قانت, والعرب تنادي بالألف كما تنادي بالياء, فتقول: أبني فلان ويا بني فلان, فيكون معنى الآية: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار, يا من هو قانت ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) إنك من أهل الجنة, قاله ابن عباس.

وفي رواية عطاء: نـزلت في أبي بكر الصديق .

وقال الضحاك: نـزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وعن ابن عمر أنها نـزلت في عثمان .

وعن الكلبي أنها نـزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان.

والقانت: المقيم على الطاعة. قال ابن عمر: « القنوت » : قراءة القرآن وطول القيام, و « آناء الليل » : ساعاته, ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يعني: في الصلاة, ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يخاف الآخرة, ( وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) يعني: كمن لا يفعل شيئًا من ذلك, ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قيل: « الذين يعلمون » عمار, و « الذين لا يعلمون » : أبو حذيفة المخزومي, ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) .

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )

( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) بطاعته واجتناب معصيته, ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ) أي: آمنوا وأحسنوا العمل, ( حَسَنَة ) يعني: الجنة, قاله مقاتل. وقال السدي: في هذه الدنيا حسنة يعني: الصحة والعافية, ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) قال ابن عباس: يعني ارتحلوا من مكة. وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي.

وقيل: نـزلت في مهاجري الحبشة.

وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب. ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى.

وقيل: نـزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه, حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا .

قال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنًا إلا الصابرون, فإنه يحثى لهم حثيًا .

ويروى: « يؤتي بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان, ويصب عليهم الأجر صبًا بغير حساب » . قال الله تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.