وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 75 )

( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) أي: محدقين محيطين بالعرش, مطيفين بحوافيه أي: بجوانبه, ( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) قيل: هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد, لأن التكليف [ يزول ] في ذلك اليوم ( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ) أي: قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل, ( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول أهل الجنة: شكرًا لله, حين تم وعد الله لهم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منـزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب, فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن, وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل الـ حم في القرآن .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو محمد الرومي, حدثنا أبو العباس السراج, حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس قال: لكل شيء لباب ولباب والقرآن الحواميم . وقال ابن مسعود: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن . وقال سعد بن إبراهيم: كن - آل حم- يسمين العرائس .

 

سورة غافر

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 )

قوله عز وجل: ( حم ) قد سبق الكلام في حروف التهجي . قال السدي عن ابن عباس: حم اسم الله الأعظم. وروى عكرمة عنه قال: آلر, وحم, ونون, حروف « الرحمن » مقطعة . وقال سعيد بن جبير وعطاء الخراساني: الحاء افتتاح أسمائه: حكيم حميد حي حليم حنان, والميم افتتاح أسمائه: مالك مجيد منان. وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه: حم, بضم الحاء وتشديد الميم . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: حم بكسر الحاء, والباقون بفتحها.

( تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ ) ساتر الذنب, ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) يعني التوبة, مصدر تاب يتوب توبًا. وقيل: التوب جمع توبة مثل دومة ودوم وحومة وحوم. قال ابن عباس: غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله, [ وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله ] ( شَدِيدِ الْعِقَابِ ) لمن لا يقول لا إله إلا الله, ( ذِي الطَّوْلِ ) ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. قال مجاهد: « ذي الطول » : ذي السعة والغنى. وقال الحسن: ذو الفضل. وقال قتادة: ذو النعم. وقيل: ذو القدرة. وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه. ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ( 4 )

( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ ) في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار, ( إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: « ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( البقرة- 176 ) . »

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن أحمد, حدثنا محمد بن خالد, أخبرنا داود بن سليمان, أخبرنا عبد الله بن حميد, حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن جدالا في القرآن كفر » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتمارون في القرآن, فقال: « إنما هلك من كان قبلكم بهذا, ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض, وإنما نـزل كتاب الله يصدق بعضه بعضًا, فلا تكذبوا بعضه ببعض, فما علمتم منه فقولوه, وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه » .

قوله تعالى: ( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم, فإن عاقبة أمرهم العذاب, نظيره قوله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ( آل عمران- 196 ) .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 ) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح, ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) قال ابن عباس: ليقتلوه ويهلكوه. وقيل: ليأسروه. والعرب تسمي الأسير أخيذًا, ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا ) ليبطلوا, ( بِهِ الْحَقَّ ) الذي جاء به الرسل ومجادلتهم مثل قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ( إبراهيم- 10 ) , و لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ( الفرقان- 21 ) ونحو ذلك, ( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) .

( وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) يعني: كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت, ( عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) من قومك, ( أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) قال الأخفش: لأنهم أو بأنهم أصحاب النار.

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 )

قوله عز وجل: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) حملة العرش والطائفون به وهم الكروبيون, وهم سادة الملائكة. قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين, والأرضون والسموات إلى حجزهم, وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت, سبحان الحي الذي لا يموت, سبوح قدوس رب الملائكة والروح.

وقال ميسرة بن عروبة: أرجلهم في الأرض السفلى, ورؤوسهم خرقت العرش, وهم خشوع لا يرفعون طرفهم, وهم أشد خوفًا من أهل السماء السابعة, وأهل السماء السابعة أشد خوفًا من أهل السماء التي تليها, والتي تليها أشد خوفًا من التي تليها. وقال مجاهد: بين الملائكة والعرش سبعون حجابًا من نور.

وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » .

وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: [ إن ما ] بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام, والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور, لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله, والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة.

وقال مجاهد: بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب من نور, وحجاب من ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة.

وقال وهب بن منبه: إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة, صف خلف صف يطوفون بالعرش, يقبل هؤلاء [ ويدبر ] هؤلاء, فإذا استقبل بعضهم بعضًا هلل هؤلاء وكبر هؤلاء, ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام, أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم, فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم, فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك, أنت الأكبر, الخلق كلهم لك راجعون. ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر, ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام, وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام, واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابًا من نار, وسبعين حجابًا من ظلمة, وسبعين حجابًا من نور, وسبعين حجابًا من در أبيض, وسبعين حجابًا من ياقوت أحمر, [ وسبعين حجابًا من ياقوت أصفر ] وسبعين حجابًا من زبرجد أخضر, وسبعين حجابًا من ثلج, وسبعين حجابًا من ماء, وسبعين حجابًا من برد, وما لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه, وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان, ولكل واحد منهم أربعة أجنحة, أما جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق, وأما جناحان فيهفو بهما, ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد .

قوله عز وجل: ( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) يصدقون بأنه واحد لا شريك له.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا عمر بن عبد الله الرقاشي, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا هارون بن رباب, حدثنا شهر بن حوشب قال: حملة العرش ثمانية, فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك, وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك, قال: وكأنهم ينظرون ذنوب بني آدم .

قوله عز وجل: ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا ) يعني يقولون ربنا, ( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) قيل: نصب على التفسير, وقيل: على النقل, أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) دينك ( وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) قال [ مطرف ] : أنصح عباد الله للمؤمنين هم الملائكة, وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين .