وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 )

( وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها, ( وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ) بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس, فكانت هذه دلالات لموسى, وعذابًا لهم, فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها, ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) عن كفرهم.

( وَقَالُوا ) لموسى لما عاينوا العذاب, ( يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) يا أيها العالم الكامل الحاذق, وإنما قالوا هذا توقيرًا وتعظيمًا له, لأن السحر عندهم كان علمًا عظيمًا وصفة ممدوحة, وقيل: معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره. وقال الزجاج: خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر. ( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) أي بما أخبرتنا من عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا العذاب, ( إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) مؤمنون, فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا, فذلك قوله عز وجل:

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 )

( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ) ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.

( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ ) أنهار النيل, ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) من تحت قصوري, وقال قتادة: تجري بين يدي في جناني وبساتيني. وقال الحسن: بأمري. ( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) عظمتي وشدة ملكي.

( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) بل أنا خير, « أم » بمعنى « بل » , وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين, وقال الفراء: الوقف على قوله: « أم » , وفيه إضمار, مجازه: أفلا تبصرون أم [ تبصرون ] ، ثم ابتدأ فقال: أنا خير, ( مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) ضعيف حقير يعني موسى, قوله: ( وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) يفصح بكلامه للثغته التي في لسانه.

( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ ) إن كان صادقًا، ( أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) قرأ حفص ويعقوب « أسورة » جمع سوار, وقرأ الآخرون « أساورة » على جمع الأسورة, وهي جمع الجمع. قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته, فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدًا تجب علينا طاعته. ( أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) متتابعين يقارن بعضهم بعضًا يشهدون له بصدقه ويعينونه على أمره.

قال الله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ) أي استخف فرعون قومه القبط, أي وجدهم جهالا. وقيل: حملهم على الخفة والجهل. يقال: استخفه عن رأيه, إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب, ( فَأَطَاعُوهُ ) على تكذيب موسى, ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) .

فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ( 56 ) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 )

( فَلَمَّا آسَفُونَا ) أغضبونا, ( انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) . ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا ) قرأ حمزة والكسائي « سلفا » بضم السين واللام, قال الفراء: هو جمع سليف من سلف بضم اللام يسلف, أي تقدم, وقرأ الآخرون بفتح السين واللام على جمع السالف, مثل: حارس وحرس وخادم وخدم, وراصد ورصد, وهما جميعًا الماضون المتقدمون من الأمم, يقال: سلف يسلف, إذا تقدم والسلف من تقدم من الآباء, فجعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون. ( وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ) عبرة وعظة لمن بقي بعدهم. وقيل: سلفًا لكفار هذه الأمة إلى النار ومثلا لمن يجيء بعدهم.

( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا ) قال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الآية نـزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام, لما نـزل قوله عز وجل: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء- 98 ) , وقد ذكرناه في سورة الأنبياء عليهم السلام. ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قرأ أهل المدينة والشام والكسائي: « يصدون » بضم الصاد, أي يعرضون, نظيره قوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا , ( النساء- 61 ) وقرأ الآخرون بكسر الصاد.

واختلفوا في معناه, قال الكسائي: هما لغتان مثل يعرُشون ويعرِشون, وشد عليه يَشُدُّ ويَشِد, ونمَّ بالحديث يَنُمُّ وَينِمُّ.

وقال ابن عباس: معناه يضجون. وقال سعيد بن المسيب: يصيحون. وقال الضحاك: يعجون. وقال قتادة: يجزعون. وقال القرظي: يضجرون. ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهًا كما عبدت النصارى عيسى.

( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) قال قتادة: « أم هو » يعنون محمدًا, فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا.

وقال السدي وابن زيد: « أم هو » يعني عيسى, قالوا: يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار, وقال الله تعالى: ( مَا ضَرَبُوهُ ) يعني هذا المثل, ( لَكَ إِلا جَدَلا ) خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله: وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء- 98 ) , هؤلاء الأصنام. ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله الحمشاوي, أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي, حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا حجاج بن دينار الواسطي, عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل » , ثم قرأ: « ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون » .

إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 )

ثم ذكر عيسى فقال: ( إِنْ هُوَ ) ما هو, يعني عيسى عليه السلام, ( إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ) بالنبوة, ( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا ) آية وعبرة, ( لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) يعرفون به قدرة الله عز وجل على ما يشاء حيث خلقه من غير أب.

( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً ) أي ولو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة, ( فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) يكونون خلفًا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني. وقيل: يخلف بعضهم بعضًا.