وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 19 ) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ( 20 ) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ( 21 ) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ( 22 ) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ( 23 ) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ( 24 ) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 25 ) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( 26 ) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( 27 )

( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ) لا تتجبروا عليه بترك طاعته, ( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) ببرهان بَيِّن على صدق قولي, فلما قال ذلك توعدوه بالقتل, فقال:

( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) . ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) أي: تقتلوني, وقال ابن عباس: تشتموني وتقولوا هو ساحر. وقال قتادة: ترجموني بالحجارة.

( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) فاتركوني لا معي ولا علي. وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي باليد واللسان, فلم يؤمنوا.

( فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) مشركون, فأجابه الله وأمره أن يسري, فقال:

( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا ) أي ببني إسرائيل, ( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) يتبعكم فرعون وقومه.

( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ ) إذا قطعته أنت وأصحابك, ( رَهْوًا ) ساكنًا على حالته وهيئته, بعد أن ضربته ودخلته, معناه: لا تأمره أن يرجع, اتركه حتى يدخله آل فرعون, وأصل « الرهو » : السكون. وقال مقاتل: معناه: اترك البحر رهوًا [ راهيا ] أي: ساكنًا, فسمي بالمصدر, أي ذا رهو. وقال كعب: اتركه طريقًا. قال قتادة: طريقًا يابسًا. قال قتادة: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون [ وجنوده ] فقيل له: اترك البحر رهوًا كما هو, ( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) أخبر موسى أنه يغرقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما جاوزه. ثم ذكر ما تركوا بمصر.

فقال: ( كَمْ تَرَكُوا ) [ يعني بعد الغرق ] ( مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) مجلس شريف, قال قتادة: الكريم الحسن.

( وَنَعْمَةٍ ) ومتعة وعيش لين, ( كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ) ناعمين وفكهين: أشرين بطرين.

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( 28 ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ( 29 ) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 30 ) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 31 ) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 32 )

( كَذَلِكَ ) قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني, ( وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يعني بني إسرائيل.

( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا, وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده, ولا لهم على الأرض عمر صالح فتبكي الأرض عليه.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو عبد الله الفنجوي, حدثنا أبو علي المقري, حدثنا أبو يعلي الموصلي, حدثنا أحمد بن إسحاق البصري, حدثنا مكي بن إبراهيم, حدثنا موسى بن عبيدة الرَّبذي, أخبرني يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه, وباب يدخل فيه عمله, فإذا مات فقداه وبكيا عليه » وتلا « فما بكت عليهم السماء والأرض » .

قال عطاء: بكاء السماء حمرة أطرافها.

قال السدي: لما قتل الحسين بن علي بكت عليه السماء, وبكاؤها حمرتها .

( وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ) لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها.

( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل.

( مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ ) يعني مؤمني بني إسرائيل, ( عَلَى عِلْمٍ ) بهم, ( عَلَى الْعَالَمِينَ ) على عالمي زمانهم.

وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ( 33 ) إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ( 34 ) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ( 35 ) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 36 ) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( 37 )

( وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) قال قتادة: نعمة بينة من فلق البحر, وتظليل الغمام, وإنـزال المن والسلوى, والنعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة, وقرأ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ( الأنبياء- 35 ) .

( إِنَّ هَؤُلاءِ ) يعني مشركي مكة ( لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى ) أي لا موتة إلا هذه التي نموتها في الدنيا, ثم لا بعث بعدها. وهو قوله: ( وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) بمبعوثين بعد موتتنا.

( فَأْتُوا بِآبَائِنَا ) [ الذين ماتوا ] ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أنا نبعث أحياء بعد الموت, ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال: ( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ) أي ليسوا خيرًا منهم, يعني أقوى وأشد وأكثر من قوم تبع. قال قتادة: هو تبع الحميري, وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة, وبنى سمرقند وكان من ملوك اليمن, سمي تبعًا لكثرة أتباعه, وكل واحد منهم يسمى: « تبعا » لأنه يتبع صاحبه, وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير, فكذبوه وكان من خبره ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره .

وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا: كان تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب بن مليك [ جاء بكر ] حين أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة, وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له فقتل غيلة, فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها, فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره, فخرجوا لقتاله وكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل, فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام, إذ جاءه حبران اسمهما: كعب وأسد من أحبار بني قريظة, عالمان وكانا ابني عم, حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها, فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها, ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد, مولده مكة, وهذه دار هجرته ومنـزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه, وفي عدوهم. قال تبع: من يقاتله وهو نبي؟ قالا يسير إليه قومه فيقتلون ها هنا, فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة, ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة, وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن, فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا: إنا ندلك على بيت فيه كنـز من لؤلؤ وزبرجد وفضة, قال: أي بيت؟ قالوا: بيت بمكة, وإنما تريد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد قط بسوء إلا هلك, فذكر ذلك للأحبار, فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت, فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك, وما أراد القوم إلا هلاكك لأنه ما ناوأهم أحد قط إلا هلك, فأكرمه واصنع عنده ما يصنع أهله, فلما قالوا له ذلك أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم, فلما قدم مكة نـزل الشعب شعب البطائح, وكسا البيت الوصائل, وهو أول من كسا البيت, ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة, وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف, فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه, قالوا: لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا, فدعاهم إلى دينه وقال إنه دين خير من دينكم, قالوا: فحاكمنا إلى النار, وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه, فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم, فقال تبع: أنصفتم, فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه, فخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم, فأكلت الأوثان وما قربوا معها, ومن حمل ذلك من رجال حمير, وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما, يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما, ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما, فمن هنالك كان أصل اليهودية في اليمن .

وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة, آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.

وذكر لنا أن كعبًا كان يقول: ذم الله قومه ولم يذمه .

وكانت عائشة تقول: لا تسبوا تبعًا فإنه كان رجلا صالحًا .

وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري, حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي, حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تسبوا تبعًا فإنه كان قد أسلم » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني ابن فنجويه, حدثنا ابن أبي شيبة, حدثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني, حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري, حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن ابن أبي ذئب, عن المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أدري تبع نبيًا كان أو غير نبي » . ( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من الأمم الكافرة. ( أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 38 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 39 )

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) قيل: يعني للحق وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .