سورة آل عمران - مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الم ( 1 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( 2 ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( 3 )

قوله تعالى ( الم اللَّهُ ) قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما: نـزلت هذه الآيات في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم: العاقب: أمير القوم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد: ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم .

دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جبب وأردية في [ جمال ] رجال بلحارث بن كعب، يقول من رآهم : ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « دعوهم » فصلوا إلى المشرق، [ فسلم ] السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم « أسلِما » قالا أسلمنا قبلك قال « كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنـزير » قالا إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن يكن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه » ؟ قالوا بلى قال: « ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه » قالوا: بلى، قال : « فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ » قالوا: لا قال: « ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ » قالوا: بلى، قال: « فهل يعلم عيسى عن ذلك شيئا إلا ما عُلِّم؟ » قالوا: لا قال: « فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء [ وربنا ليس بذي صورة وليس له مثل ] وربنا لا يأكل ولا يشرب » قالوا: بلى، قال: « ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ » ، قالوا: بلى قال: « فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ » فسكتوا، فأنـزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها . فقال عز من قائل ( الم اللَّهُ ) مفتوح الميم، موصول عند العامة، وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين حرك إلى أخف الحركات وقرأ أبو يوسف ويعقوب بن خليفة الأعشى عن أبي بكر ( الم الله ) مقطوعا سكن الميم على نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء وأجراه على لغة من يقطع ألف الوصل .

قوله تعالى ( اللَّهُ ) ابتداء وما بعده خبر، والحي القيوم نعت له.

( نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) أي القرآن ( بِالْحَقِّ ) بالصدق ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع ( وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ ) وإنما قال: وأنـزل التوراة والإنجيل لأن التوراة والإنجيل أنـزلا جملة واحدة، وقال في القرآن « نـزل » لأنه نـزل مفصلا والتنـزيل للتكثير، والتوراة قال البصريون: أصلها وَوْرية على وزن فوعلة مثل: دوحلة وحوقلة، فحولت الواو الأولى تاءً وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: أصلها تفعلة مثل توصية وتوفية فقلبت الياء ألفا على لغة طيئ فإنهم يقولون للجارية جاراة، وللتوصية توصاة، وأصلها من قولهم: ورى الزند إذا خرجت ناره، وأوريته أنا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( الواقعة - 71 ) فسمي التوراة لأنها نور وضياء، قال الله تعالى: وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ( الأنبياء - 48 ) وقيل هي من التوراة وهي كتمان [ السر ] والتعريض بغيره، وكان أكثر التوراة معاريض من غير تصريح.

والإنجيل: إفعيل من النجل وهو الخروج ومنه سمي الولد نجلا لخروجه، فسمي الإنجيل به لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا، ويقال: هو من النَّجَل وهو سعة العين، سمي به لأنه أنـزل سعة لهم ونورا، وقيل: التوراة بالعبرانية تور، وتور معناه الشريعة، والإنجيل بالسريانية أنقليون ومعناه الإكليل.

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 4 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 5 ) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 6 )

قوله تعالى: ( هُدًى لِلنَّاسِ ) هاديًا لمن تبعه ولم يثنِّه لأنه مصدر ( وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ ) المفرق بين الحق والباطل، وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها وأنـزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس.

قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ )

( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) ذكرا أو أنثى، أبيض أو أسود، حسنا أو قبيحا، تاما أو ناقصا، ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ ) وهذا في الرد على وفد نجران من النصارى، حيث قالوا: عيسى ولد الله، فكأنه يقول: كيف يكون لله ولد وقد صوره الله تعالى في الرحم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحيم بن أحمد بن محمد الأنصاري، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا أبو خيثمة زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك » أو قال: « يبعث إليه الملك بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد » قال: « وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أبو أحمد بن عيسى الجلودي، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتب ذلك فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص » .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( 7 )

قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ) مبينات مفصلات، سميت محكمات من الإحكام، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ( هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال: ( هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ ) ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد وقيل: معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ( 50 - المؤمنون ) أي كل واحد منهما آية ( وَأُخَرُ ) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر، مثل: عمر وزفر ( مُتَشَابِهَاتٌ ) فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر؟ . فقال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ( 1- هود ) وجعله كله متشابها [ في موضع آخر ] فقال: اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ( 23 - الزمر ) .

قيل: حيث جعل الكل محكما، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابها.

واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( 151 ) ونظيرها في بني إسرائيل وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ( 23 - الإسراء ) الآيات وعنه أنه قال: المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور.

وقال مجاهد وعكرمة: المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا، كقوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 - البقرة ) وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 - يونس ) .

وقال قتادة والضحاك والسدي: المحكم الناسخ الذي يعمل به، والمشتابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقيل: المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال، ونـزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة وفناء الدنيا.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجها.

وقيل: المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل. وقال بعضهم: المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا بردِّه إلى غيره.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية [ باذان ] المتشابه حروف التهجي في أوائل السور، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي: بلغنا أنه أنـزل عليك ( الم ) فننشدك الله أنـزلت عليك؟ قال: « نعم » قال: فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنـزل غيرها؟ قال: « نعم » المص قال: فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة، قال: فهل غيرها؟ قال: « نعم » الر . قال: هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنـزل الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ ) .

( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ ) أي ميل عن الحق وقيل شك ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) واختلفوا في المعنيِّ بهذه الآية . قال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وقالوا له: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: « بلى » قالوا: حسبنا، فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمَّل. وقال ابن جريج: هم المنافقون وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ْزَيْغٌ ) قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبأية فلا أدري من هم، وقيل: هم جميع المبتدعة .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن مسلمة، أنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَاتٌ ) - إلى قوله ( أُولُو الألْبَابِ ) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم » .

قوله تعالى : ( ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) طلب الشرك قاله الربيع والسدي، وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ( وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) تفسيره وعلمه، دليله قوله تعالى سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 78 - الكهف ) وقيل: ابتغاؤه عاقبته، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل، دليله قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 35 - الإسراء ) أي عاقبة .

قوله تعالى: ( وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم: الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني: أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) وهذا قول مجاهد والربيع، وعلى هذا يكون قوله « يقولون » حالا معناه: والراسخون في العلم قائلين آمنا به، هذا كقوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ( 7 - الحشر ) ثم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ( 8 - الحشر ) إلى أن قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( 9 - الحشر ) ثم قال وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ( 10 - الحشر ) وهذا عطف على ما سبق، ثم قال: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ( 10 - الحشر ) يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا، أي قائلين على الحال .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم، وروي عن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.

وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله « والراسخون » واو الاستئناف، وتم الكلام عند قوله: ( وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونـزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل، ومما يصدِّق ذلك قراءة عبد الله إنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وفي حرف أُبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به.

وقال عمر بن عبد العزيز: في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا. وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية .

قوله تعالى ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال: رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل: الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ( 162 - النساء ) يعني ( المدارسين ) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع له وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق،والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي: بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به، أي بالمتشابه ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ( وَمَا يَذَّكَّرُ ) وما يتعظ بما في القرآن ( إِلا أُولُو الألْبَابِ ) ذوو العقول.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 8 )

قوله تعالى ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) أي ويقول الراسخون: ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملْها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ ( بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ) أعطنا من عندك ( رَحْمَةً ) توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى، وقال الضحاك: تجاوزًا ومغفرة ( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، أنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن القاسم القرشي يعرف بابن الرواس الكبير بدمشق، أنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، أنا صدقة، أنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر، حدثني بشر بن عبيد الله قال: سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: حدثني النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن إياس الجُريري عن غنيم بن قيس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن » .

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 9 )

قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِع النَّاسِ لِيَوْمٍ ) أي لقضاء يوم، وقيل: اللام بمعنى في، أي في يوم ( لا رَيْبَ فِيهِ ) أي لا شك فيه، وهو يوم القيامة ( إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِف الْمِيعَادَ ) مفعال من الوعد.