قوله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( 29 )

( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) الآية, قال المفسرون: لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه, فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف, وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم, وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل, ومسعود, وحبيب بنو [ عمرو بن ] عمير, وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح, فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام, والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة, إن كان الله أرسلك, وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبدًا, لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام, ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف, وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليّ [ سري ] ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك, فلم يفعلوا, وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس, وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة, وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه, فعمد إلى ظل حبلة من عنب, فجلس فيه, وابنا ربيعة ينظران إليه, ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف, ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح, فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس, أنت أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين, وأنت ربي, إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟, إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينـزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بك » .

فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عداس, فقالا له: خذ قطفًا من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل, فقل له يأكل منه, ففعل ذلك عداس, ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: بسم الله, ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني, وأنا رجل من أهل نينوى, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه.

قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك, فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل, لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي, فقالا ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف, حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن, فاستمعوا له, فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين, قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا, فقص الله خبرهم عليه, فقال: « وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا مسدد, حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, فأرسلت عليهم الشهب, فرجعت الشياطين إلى قومهم, فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء, وأرسلت علينا الشهب, قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث, فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها, فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة, عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له, فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ( الجن: 1- 2 ) , فأنـزل الله على نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ( الجن- 1 ) وإنما أوحى إليه قول الجن .

وروي: أنهم لما رجعوا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر, وكان أول بعثٍ بعثَ ركبًا من أهل نصيبين, وهم أشراف الجن وساداتهم, فبعثهم إلى تهامة.

وقال أبو حمزة [ الثمالي ] : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عددًا, وهم عامة جنود إبليس, فلما رجعوا قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا .

وقال جماعة: بل أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن, فصرف إليه نفرًا من الجن من أهل نينوى, وجمعهم له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة, فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا, ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا, فاتَّبَعَهُ عبد الله بن مسعود, قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري, فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبًا يقال له: شعب الحجون, وخط لي خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه, وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن, فجعلت أرى أمثال النسور تهوي, وسمعت لغطًا شديدًا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم, وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه, حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين, ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر, فانطلق إليَّ وقال: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله, وقد هممت مرارًا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك, تقول: اجلسوا, قال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم, ثم قال: هل رأيت شيئًا؟ قلت نعم يا رسول الله رأيت رجالا سودًا مستثفري ثياب بيض, قال: أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة.

قال: فقالوا: يا رسول الله تقذرها الناس, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث.

قال: فقلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل, ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت, قال فقلت: يا رسول الله سمعت لغطًا شديدًا؟ فقال: إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليَّ فقضيت بينهم بالحق, قال: ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني, فقال: هل معك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر, فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال: « تمرة طيبة وماء طهور » .

قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخًا شمطًا من الزُّطِّ فأفزعوه حين رآهم, فقال: اظهروا, فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط, فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الجن.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغفار بن محمد, حدثنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند, عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب, فقلنا: استطير أو اغتيل, قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء, قال فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.

قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

قال وسألوه الزاد, فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن » . .

ورواه مسلم عن عليّ بن حجر, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن داود بهذا الإسناد إلى قوله: « وآثار نيرانهم » .

قال الشعبي: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله.

قوله عز وجل: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) اختلفوا في عدد ذلك النفر, فقال ابن عباس: كانوا سبعة من جن نصيبين, فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قالوا: صه .

وروي في الحديث: « أن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء, وصنف حيات وكلاب, وصنف يحلون ويظعنون » .

فلما حضروه قال بعضهم لبعض: أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته, فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء, فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم.

( فَلَمَّا قُضِي ) فرغ من تلاوته, ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ ) انصرفوا إليهم, ( مُنْذِرِينَ ) مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( 30 ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 )

( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال عطاء: كان دينهم اليهودية, لذلك قالوا: إنا سمعنا كتابًا أنـزل من بعد موسى .

( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم , ( وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) « من » صلة, أي ذنوبكم, ( وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلا من الجن, فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء, فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن والإنس جميعًا.

قال مقاتل: لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعًا .

واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن فقال قوم: ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار, وتأولوا قوله: « يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم » , وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.

وحكى سفيان عن ليث قال: الجن ثوابهم أن يجاروا من النار, ثم يقال لهم: كونوا ترابًا, وهذا مثل البهائم.

وعن أبي الزناد قال: إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن: عودوا ترابًا, فيعودون ترابًا, فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ( النبأ- 40 ) .

وقال الآخرون: يكون لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس, وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى.

وقال جرير عن الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.

وذكر النقاش في « تفسيره » حديث أنهم يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يلهمهم الله تسبيحه وذكره, فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة. وقال أرطاة بن المنذر: سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ قال: نعم, وقرأ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( الرحمن- 74 ) , قال: فالإنسيات للإنس والجنيات للجن.

وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمني الجن حول الجنة, في ربض ورحاب, وليسوا فيها.

وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 32 ) .

( وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) لا يعجز الله فيفوته, ( وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ) أنصار يمنعونه من الله, ( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ) لم يعجز عن إبداعهن, ( بِقَادِرٍ ) هكذا قراءة العامة, واختلفوا في وجه دخول الباء فيه, فقال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتأكيد, كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ .

وقال الكسائي, والفراء: العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحد, فتقول: ما أظنك بقائم.

وقرأ يعقوب: « يقدر » بالياء على الفعل, واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله قادر بغير باء.

( عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) فيقال لهم, ( أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ ) أي فيقال لهم: ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال ابن عباس: ذوو الحزم. وقال الضحاك: ذوو الجد والصبر.

واختلفوا فيهم, فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم, لم يبعث الله نبيًا إلا كان ذا عزم وحزم, ورأي وكمال عقل, وإنما أدخلت « من » للتجنيس لا للتبعيض, كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز.

وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى, لعجلة كانت منه, ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ؟ .

وقال قوم: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام, وهم ثمانية عشر, لقوله تعالى بعد ذكرهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ( الأنعام- 90 ) .

وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين.

وقيل: هم ستة: نوح, وهود, وصالح, ولوط, وشعيب, وموسى, عليهم السلام, وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء.

وقال مقاتل: هم ستة: نوح, صبر على أذى قومه, وإبراهيم, صبر على النار, وإسحاق صبر على الذبح, ويعقوب، صبر على فقد ولده وذهاب بصره, ويوسف, صبر على البئر والسجن, وأيوب, صبر على الضر.

وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, أصحاب الشرائع, فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة.

قلت: ذكرهم الله على التخصيص في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( الأحزاب- 7 ) , وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ( الشورى- 13 ) .

أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي, حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ, أخبرنا عبدالرحمن بن أبي حاتم, أخبرنا محمد بن الحجاج, أخبرنا السري بن حيان, أخبرنا عباد بن عباد, حدثنا مجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق قال: قالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد, يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها, والصبر على مجهودها, ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم, وقال: » فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل « وإني والله لا بد لي من طاعته, والله لأصبرن كما صبروا, وأجهدن كما جهدوا, ولا قوة إلا بالله » .

قوله تعالى: ( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) أي ولا تستعجل العذاب لهم, فإنه نازل بهم لا محالة, كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينـزل العذاب بمن أبى منهم, فأمر بالصبر وترك الاستعجال.

ثم أخبر عن قرب العذاب فقال:

( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ) من العذاب في الآخرة, ( لَمْ يَلْبَثُوا ) [ في الدنيا ] ( إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ) أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار, لأن ما مضى وإن كان طويلا كأن لم يكن.

ثم قال: ( بَلاغٌ ) أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم, والبلاغ بمعنى التبليغ, ( فَهَلْ يُهْلَكُ ) بالعذاب إذا نـزل ( إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) الخارجون من أمر الله.

قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون, ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية.