إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( 10 ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 11 ) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 12 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ ) لن تنفع ولن تدفع ( عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ ) قال الكلبي: من عذاب الله، وقال أبو عبيدة من بمعنى عند، أي عند الله ( شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّارِ )

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب، وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة: كسنة آل فرعون، وقال الأخفش: كأمر آل فرعون وشأنهم، وقال النضر بن شميل: كعادة آل فرعون، يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول وجحود الحق كعادة آل فرعون، ( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كفار الأمم الماضية؛ مثل عاد وثمود وغيرهم ( كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُم اللَّهُ ) فعاقبهم الله ( بِذُنُوبِهِمْ ) وقيل نظم الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ( وَاللَّه شَدِيد الْعِقَابِ ) .

قوله تعالى: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ) قرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما، أي أنهم يغلبون ويحشرون، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما، على الخطاب، أي: قل لهم: إنكم ستغلبون وتحشرون. قال مقاتل: أراد مشركي مكة معناه: قل لكفار مكة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنم في الآخرة، فلما نـزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر « إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم » .

وقال بعضهم المراد بهذه الآية: اليهود، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر: هذا - والله - النبي الذي بشَّرَنا به موسى لا ترد له راية، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فغلب عليهم الشقاء، فلم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة ليستفزهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

وقال محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: « يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نـزل بقريش يوم بدر وأسلِموا قبل أن ينـزل بكم مثل ما نـزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم » فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس، فأنـزل الله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ) تهزمون ( وَتُحْشَرُونَ ) في الآخرة ( إِلَى جَهَنَّمَ ) ( وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الفراش، أي بئس ما مهد لهم يعني النار.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ( 13 )

قوله تعالى: ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ) ولم يقل قد كانت لكم، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان أي قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى.

وقال الفراء: إنما ذُكِّرَ لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث، فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه، فمعنى الآية: قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول أنكم ستغلبون. ( فِي فِئَتَيْنِ ) فرقتين وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض ( الْتَقَتَا ) يوم بدر ( فِئَةٌ تُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجّالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف.

قوله تعالى: ( وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ) أي فرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ) قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية، وقرأ الآخرون بالياء، واختلفوا في وجهه: فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم، فإن قيل: كيف قال: مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم؟ قيل: هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم والتأويل الثاني - وهو الأصح - كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم، قلَّلهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددًا يسيرًا أقل من أنفسهم [ قال ابن مسعود رضي الله عنه ] حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة قال بعضهم: الرؤية راجعة إلى المشركين يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترئوا فذلك قوله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ( 44 - الأنفال ) .

قوله تعالى: ( رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي في رأي العين نصب بنـزع حرف الصنعة ( وَاللَّه يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ ) الذي ذكرت ( لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ) لذوي العقول، وقيل لمن أبصر الجمعين.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ( 14 )

قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبّ الشَّهَوَاتِ ) جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه ( مِنَ النِّسَاءِ ) بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان ( وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ ) جمع قنطار واختلفوا فيه فقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس رضي الله عنهما [ والضحاك ] ألف ومائتا مثقال. وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف [ دينار ] دية أحدكم، وعن الحسن القنطار دية أحدكم، وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مائة ألف ومائة مَنٍّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفا، وقال مجاهد سبعون ألفا، وعن السدي قال: أربعة آلاف مثقال، وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال، وقال أبو نضرة: ملء مسك ثور ذهبا أو فضة.

وسمي قنطارا من الإحكام، يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة.

قوله تعالى: ( الْمُقَنْطَرَةِ ) قال الضحاك: المحصنة المحكمة، وقال قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض وقال يمان: [ المدفونة ] وقال السدي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير، وقال [ الفراء ] المضعفة، فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ( مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفضُّ أي تتفرق ( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) الخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس، كالقوم والنساء ونحوهما، المسومة قال مجاهد: هي المطهمة الحسان، وقال عكرمة: تسويمها حسنها، وقال سعيد بن جبير: هي الراعية، يقال: أسام الخيل وسوَّمها قال الحسن وأبو عبيدة: هي المعلمة من السيماء والسيماء العلامة، ثم منهم من قال: سيماها الشبه واللون وهو قول قتادة وقيل: الكي.

( وَالأنْعَامِ ) جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه ( وَالْحَرْثِ ) يعني الزرع ( ذَلِكَ ) الذي ذكرنا ( مَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يشير إلى أنها متاع يفنى ( وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الْمَآبِ ) أي المرجع، فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 15 )

قوله تعالى ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْد َرَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ) قرأه العامة بكسر الراء، وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء، وهما لغتان كالعُدوان والعِدوان.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .