وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 )

( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ ) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم, ( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) بعلامتهم, قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها.

قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نـزول هذه الآية شيء من المنافقين, كان يعرفهم بسيماهم .

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) في معناه ومقصده.

« واللحن » : وجهان صواب وخطأ, فالفعل من الصواب: لَحِنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لَحِنٌ إذا فطن للشيء, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض » .

والفعل من الخطأ لَحَنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لاحِنٌ. والأصل فيه: إزالة الكلام عن جهته.

والمعنى: إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم, فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله, ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته.

( وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )

( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال, ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) أي: علم الوجود, يريد: حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره, ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال, ولا يصبر على الجهاد.

وقرأ أبو بكر عن عاصم: « وليبلونكم حتى يعلم » , ويبلو بالياء فيهن, لقوله تعالى: [ « والله يعلم أعمالكم » , وقرأ الآخرون بالنون فيهن, لقوله تعالى ] وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ , وقرأ يعقوب: « ونبلوا » ساكنة الواو, ردًا على قوله: « ولنبلونكم » وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله: « حتى نعلم » .

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) إنما يضرون أنفسهم, ( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ) فلا يرون لها ثوابًا في الآخرة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المطعمون يوم بدر, نظيرها قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( الأنفال- 36 ) الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 ) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 ) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) قال عطاء: بالشك والنفاق, وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر.

وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل, فنـزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال.

وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم, نـزلت في بني أسد, وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) قيل: هم أصحاب القليب. وحكمها عام.

( فَلا تَهِنُوا ) لا تضعفوا ( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء, منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح, وأمرهم بحربهم حتى يسلموا, ( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) الغالبون, قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات, ( وَاللَّهُ مَعَكُمْ ) بالعون والنصرة, ( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم, يقال: وتره يتره وترًا وَتِرَةً: إذا نقص حقه, قال ابن عباس, وقتادة, ومقاتل، والضحاك: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها. ثم حض على طلب الآخرة فقال:

( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) باطل وغرور, ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ) الفواحش, ( يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ) جزاء أعمالكم في الآخرة, ( وَلا يَسْأَلْكُمْ ) ربكم, ( أَمْوَالَكُمْ ) لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة, نظيره قوله: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ( الذاريات- 57 ) , وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم, نظيره: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان- 57 ) .

وقيل: معنى الآية: لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات, إنما يسألانكم غيضًا من فيض, ربع العشر فطيبوا بها نفسًا. وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة, يدل عليه سياق الآية:

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 )

( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ) أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها, يقال: أحفى فلان فلانا إذا جهده, وألحف عليه بالمسألة.

( تَبْخَلُوا ) بها فلا تعطوها.

( وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ) بغضكم وعداوتكم, قال قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان. ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يعني إخراج ما فرض الله عليكم, ( فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) بما فرض عليه من الزكاة, ( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ ) عن صدقاتكم وطاعتكم, ( وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) إليه وإلى ما عنده من الخير. ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم.

قال الكلبي: هم كندة والنخع, وقال الحسن: هم العجم, وقال عكرمة: فارس والروم.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر, حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس, أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش, حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثنا مسلم بن خالد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: « وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » , قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: « هذا وقومه, ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس » .