مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )

( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) تم الكلام هاهنا, قاله ابن عباس, شهد له بالرسالة, ثم قال مبتدئًا: ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) فالواو فيه للاستئناف, أي: والذين معه من المؤمنين, ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة, ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) متعاطفون متوادون بعضهم لبعض, كالولد مع الوالد, كما قال: « أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين » : ( المائدة- 54 ) : ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها, ( يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ ) أن يدخلهم الجنة, ( وَرِضْوَانًا ) أن يرضى عنهم, ( سِيمَاهُمْ ) أي علامتهم, ( فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) اختلفوا في هذه السيما: فقال قوم: هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا, وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس, قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.

وقال آخرون: هو السمت الحسن والخشوع والتواضع. وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال: ليس بالذي ترون لكنه سيماء الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه. وهو قول مجاهد, والمعنى: أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به.

وقال الضحاك: هو صفرة الوجه من السهر.

وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى.

قال عكرمة وسعيد بن جبير: هو أثر التراب على الجباه.

قال أبو العالية: إنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب.

وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .

( ذَلِكَ ) الذي ذكرت, ( مَثَلُهُمْ ) صفتهم ( فِي التَّوْرَاةِ ) هاهنا تم الكلام, ثم ذكر نعتهم في الإنجيل, فقال: ( وَمَثَلُهُمْ ) صفتهم, ( فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قرأ ابن كثير, وابن عامر: « شطأه » بفتح الطاء, وقرأ الآخرون بسكونها, وهما لغتان كالنهر والنهر, وأراد أفراخه, يقال: أشطأ الزرع فهو مشطىء, إذا أفرخ, قال مقاتل: هو نبت واحد, فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه.

وقال السدي: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى.

قوله: ( فَآزَرَهُ ) قرأ ابن عامر: « فأزره » بالقصر والباقون بالمد, أي: قواه وأعانه وشد أزره, ( فَاسْتَغْلَظَ ) غلظ ذلك الزرع, ( فَاسْتَوَى ) أي تم وتلاحق نباته وقام, ( عَلَى سُوقِهِ ) أصوله, ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) أعجب ذلك زراعه.

هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل [ أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون.

قال قتادة: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ] مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

وقيل: « الزرع » محمد صلى الله عليه وسلم, و « الشطء » : أصحابه والمؤمنون.

وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: « محمد رسول الله والذين معه » : أبو بكر الصديق رضي الله عنه, « أشداء على الكفار » عمر بن الخطاب رضي الله عنه, « رحماء بينهم » عثمان بن عفان رضي الله عنه, « تراهم ركعًا سجدًا » علي بن أبي طالب رضي الله عنه, « يبتغون فضلا من الله » بقية العشرة المبشرين بالجنة.

وقيل: « كمثل زرع » محمد, « أخرج شطأه » أبو بكر « فآزره » عمر « فاستغلظ » عثمان, للإسلام « فاستوى على سوقه » علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه, « يعجب الزراع » قال: هم المؤمنون.

( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم: لا تعبدوا الله سرًا بعد اليوم:

حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاء, أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال, حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي, حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي, حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد, حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي, عن عبد الرحمن بن حميد, عن أبيه, عن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: « أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان في الجنة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعد بن أبي وقاص في الجنة, وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة » .

حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي, حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي, حدثنا قطبة بن العلاء, حدثنا سفيان الثوري, عن خالد الخذاء, عن أبي قلابة, عن أنس بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أرحم أمتي أبو بكر, وأشدهم في أمر الله عمر, وأصدقهم حياء عثمان, وأفرضهم زيد, وأقرؤهم أبيّ, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, ولكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح » .

ورواه معمر عن قتادة مرسلا وفيه: « وأقضاهم علي » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا معلى بن أسد, حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء, حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة, فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها, قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب فعدَّ رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم .

أخبرنا أبو منصور عبد الملك وأبو الفتح نصر, ابنا علي بن أحمد بن منصور ومحمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قالا حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب, أخبرنا الحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي, حدثنا إبراهيم بن إسماعيل هو ابن يحيى بن سلمة بن كهيل, حدثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن أبي الزعراء عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر, واهتدوا بهدي عمار, وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أبي حازم, عن سهل بن سعد أن أُحُدًا ارتج وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد » .

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي, أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, حدثنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا وكيع, حدثنا الأعمش, عن عدي بن ثابت, عن زر بن حبيش, عن عليّ قال: عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن, ولا يبغضك إلا منافق .

حدثنا أبو المظفر التميمي, أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان, أخبرنا خيثمة بن سليمان, حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني, حدثنا محمد بن الفضل بن عطية, عن عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة » .

قوله عز وجل: ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظًا للكافرين.

قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .

أخبرنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي, حدثنا أبو معمر الفضل بن إسماعيل بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرني الهيثم بن خلف الدوري, حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي, حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد, حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله الله في أصحابي, الله الله في أصحابي, الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضًا بعدي, فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه » .

حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم, أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان, حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة, أخبرنا وكيع بن الجراح, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني, حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة, حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إشكاب, حدثنا شبابة بن سوَّار, حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني, عن أبيه, عن عليٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنْ سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قومًا يتنحلون حبك يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, نبزهم الرافضة, فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون » ، في إسناد هذا الحديث نظر.

قول الله عز وجل: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ) قال ابن جرير: يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع, وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة, وردَّ الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه, ولذلك لم يقل: « منه » , ( مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) يعني الجنة.

 

سورة الحجرات

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قرأ يعقوب: « لا تقدموا » بفتح التاء والدال, من التقدم أي لا تتقدموا, وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال, من التقديم, وهو لازم بمعنى التقدم, [ قال أبو عبيدة ] : تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب, أي لا تعجل بالأمر والنهي دونه, والمعنى: بين اليدين الأمام. والقدام: أي لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما. واختلفوا في معناه: روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى, وهو قول الحسن, أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك أن ناسًا ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فأمرهم أن يعيدوا الذبح .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا شعبة, عن يزيد, عن الشعبي, عن البراء قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر, قال: « إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي, ثم نرجع فننحر, فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء » .

وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة, أن عبد الله بن الزبير أخبرهم, أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاع معبد بن زرارة, قال عمر: بل أَمِّرِ الأقرع بن حابس, قال أبو بكر: ما أردتَ إلا خِلافي, قال عمر: ما أردتُ خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما, فنـزلت في ذلك: « يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » حتى انقضت .

ورواه نافع عن ابن أبي مليكة, قال فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » إلى قوله: « أجر عظيم » , وزاد: قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه, ولم يذكر عن أبيه, يعني أبا بكرٍ .

وقال قتادة: نـزلت الآية في ناس كانوا يقولون: لو أُنـزل في كذا, أو صُنع في كذا وكذا, فكره الله ذلك .

وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .

وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في تضييع حقه ومخالفة أمره, ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) لأقوالكم, ( عَلِيمٌ ) بأفعالكم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 2 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده, ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضًا, ( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) لئلا تحبط حسناتكم. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم, ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك قال: لما نـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » الآية, جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى, قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال ثابت: أنـزلت هذه الآية, ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل هو من أهل الجنة » .

وروي أنه لما نـزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي, فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: هذه الآية أتخوف أن تكون نـزلت فيّ, وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي, وأن أكون من أهل النار, فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغلب ثابتًا البكاءُ, فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبَّة بمسمار, وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره خبره فقال له: اذهب فادعه, فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده, فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس, فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة فكسرها, فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صَيِّتٌ وأتخوف أن تكون هذه الآية نـزلت فيّ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله, ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) .

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 )

( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية .

قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا, فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب, رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم, فقال: أفٍ لهؤلاء, ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا, ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع, فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلانًا رجل من المسلمين نـزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يسير في طِوَلِهِ, وقد وضع على درعي بُرْمَة, فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي, وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ دَيْنًا حتى يقضى, وفلان من رقيقي عتيق, فأخبر الرجل خالدًا فوجد درعه والفرس على ما وصفه له, فاسترد الدرع, وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته .

قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.

قال أبو هريرة وابن عباس: لما نـزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار .

وقال ابن الزبير: لما نـزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته, فأنـزل الله تعالى: « إن الذين يغضون أصواتهم » ، يخفضون ( أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) إجلالا له, ( أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه, ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 4 )

( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قرأ العامة بضم الجيم, وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم, وهما لغتان, وهي جمع الحُجَر, والحُجَرُ جمع الحُجْرَةِ فهي جمع الجمع.

قال ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأَمَّرَ عليهم عيينة بن حصن الفزاري, فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم, فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري, فقدموا وقت الظهيرة, ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في أهله, فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون, وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم [ حجرة, فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، فجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا, حتى أيقظوه من نومه, فخرج إليهم فقالوا: يا محمد فَادِنَا عيالنا, فنـزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو, وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم, فقال سبرة: أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد, وهو الأعور بن بشامة, فرضوا به, فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رضيت, ففادى نصفهم وأعتق نصفهم, فأنـزل الله تعالى: « إن الذين يُنَادُونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون » , وصفهم بالجهل وقلة العقل .