وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 )

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) يحدث به قلبه ولا يخفى علينا سرائره وضمائره, ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ) أعلم به, ( مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا, ولا يحجب علم الله شيء, و « حبل الوريد » : عرق العنق, وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين, يتفرق في البدن, والحبل هو الوريد, فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ) أي: يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه, ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ) أي أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله, فالذي عن اليمين يكتب الحسنات, والذي عن الشمال يكتب السيئات. ( قَعِيدٌ ) أي: قاعد, ولم يقل: قعيدان, لأنه أراد: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد, فاكتفى بأحدهما عن الآخر, هذا قول أهل البصرة. وقال أهل الكوفة: أراد: قعودًا, كالرسول فجعل للاثنين والجمع, كما قال الله تعالى في الاثنين: فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء- 16 ) , وقيل: أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح, لا القاعد الذي هو ضد القائم. وقال مجاهد: القعيد الرصيد.

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 )

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ) ما يتكلم من كلام فيلفظه أي: يرميه من فيه , ( إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ) حافظ, ( عَتِيدٌ ) حاضر أينما كان. قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه وعند جماعه.

وقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه .

وقال الضحاك: مجلسهما تحت الضرس على الحنك, ومثله عن الحسن, وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري, حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان, حدثنا الفضل بن العباس بن مهران, حدثنا طالوت، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل, وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات, فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرًا؛ وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر » .

( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ) غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله, ( بِالْحَقِّ ) أي بحقيقة الموت, وقيل: بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان. وقيل: بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة. ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) تميل, قال الحسن: تهرب وقال ابن عباس: تكره, وأصل الحيد الميل, يقال: حدتُ عن الشيء أحِيدُ حَيْدًا ومَحِيْدًا: إذا ملتُ عنه.

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 ) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 ) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 ) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( 23 ) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( 24 )

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) يعني نفخة البعث, ( ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) أي: ذلك اليوم يوم الوعيد الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب, أي: يوم وقوع الوعيد.

( وَجَاءَتْ ) ذلك اليوم , ( كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ ) يسوقها إلى المحشر ( وَشَهِيدٌ ) يشهد عليها بما عملت, قال الضحاك: السائق من الملائكة, والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل, وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وقال الآخرون: هما جميعًا من الملائكة, فيقول الله:

( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) . ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) اليوم في الدنيا, ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك, ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وروي عن مجاهد قال: يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك.

( وَقَالَ قَرِينُهُ ) الملك الموكل به , ( هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) مُعَدٌّ محضر, وقيل: « ما » بمعنى ( من ) , قال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله, فيقول الله عز وجل لقرينه:

( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ) هذا خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب, تقول: ويحك ويلك ارحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاها, للواحد, قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان, فجرى كلام الواحد على صاحبيه, ومنه قولهم في الشعر للواحد: خليليَّ. وقال الزجَّاج: هذا أمر للسائق والشهيد, وقيل: للمتلقيين.

( كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) عاص معرض عن الحق. قال عكرمة ومجاهد: مجانب للحق معاند لله.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ( 25 ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 26 ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 27 ) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ( 28 ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 29 ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ( 30 )

( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب في ماله, ( مُعْتَدٍ ) ظالم لا يقر بتوحيد الله, ( مُرِيبٍ ) شاك في التوحيد, ومعناه: داخل في الريب.

( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ) وهو النار.

( قَالَ قَرِينُهُ ) يعني الشيطان الذي قُيِّضَ لهذا الكافر: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) ما أضللته وما أغويته, ( وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) عن الحق فيتبرأ عنه شيطانه, قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: « قال قرينه » يعني: الملك , قال سعيد بن جبير: يقول الكافر يا رب إن الملك زاد عليّ في الكتابة, فيقول الملك « ربنا ما أطغيته » , يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ، ولكن كان في ضلال بعيد, طويل لا يرجع عنه إلى الحق.

( قَالَ ) فيقول الله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) في القرآن وأنذرتكم وحذرتكم على لسان الرسول, وقضيت عليكم ما أنا قاض.

( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) لا تبديل لقولي, وهو قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة- 13 ) , وقال قوم: معنى قوله: « ما يبدل القول لدي » أي: لا يكذب عندي, ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلم الغيب. وهذا قول الكلبي, واختيار الفراء ، لأنه قال: « ما يبدل القول لدي » ولم يقل ما يبدل قولي.

( وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) فأعاقبهم بغير جرم.

( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ) قرأ نافع وأبو بكر « يقول » بالياء, أي: يقول الله, لقوله: « قال لا تختصموا » , وقرأ الآخرون بالنون, ( هَلِ امْتَلأتِ ) وذلك لما سبق لها من وعده إياها أنه يملؤها من الجنة والناس, وهذا السؤال من الله عز وجل لتصديق خبره وتحقيق وعده, ( وَتَقُولُ ) جهنم , ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قيل: معناه قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلىء, فهو استفهام إنكار, هذا قول عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان. وقيل: هذا استفهام بمعنى الاستزادة , وهو قول ابن عباس في رواية أبي صالح, وعلى هذا يكون السؤال بقوله: « هل امتلأت » , قبل دخول جميع أهلها فيها , وروي عن ابن عباس: أن الله تعالى سبقت كلمته لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة- 13 ) , فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء, فتقول: ألست قد أقسمت لتملأني؟ فيضع قدمه عليها, ثم يقول: هل امتلأت؟ فتقول: قط قط قد امتلأت فليس فيّ مزيد .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي, أخبرنا [ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ] حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي, أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي, حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تزال جهنم تقول هل من مزيد, حتى يضع رب العزة فيها قدمه, فتقول قط قط وعزتك, ويزوي بعضها إلى بعض, ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقًا فيسكنه فضول الجنة » .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( 31 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( 32 )

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ) قُرِّبت وأُدْنِيَت , ( لِلْمُتَّقِينَ ) الشرك , ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) ينظرون إليها قبل أن يدخلوها.

( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء, يقال لهم: هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام, ( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) رجاع إلى الطاعة عن المعاصي, قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال الضحاك: هو التواب. وقال ابن عباس وعطاء: المسبح, من قوله: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ( سبأ- 10 ) وقال قتادة: المصلي. ( حَفِيظٍ ) قال ابن عباس: الحافظ لأمر الله, وعنه أيضًا: هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. قال قتادة حفيظ لما استودعه الله من حقه. قال الضحاك: الحافظ على نفسه المتعهد لها. قال الشعبي: المراقب. قال سهل بن عبد الله: المحافظ على الطاعات والأوامر.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ( 33 ) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 ) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 )

( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) محل « من » جر على نعت الأواب. ومعنى الآية: من خاف الرحمن وأطاعه بالغيب ولم يره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. ( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) مخلص مقبل إلى طاعة الله .

( ادْخُلُوهَا ) [ أي: يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوها ] أي ادخلوا الجنة ( بِسَلامٍ ) بسلامة من العذاب والهموم. وقيل بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم, ( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) .

( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ) , وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاؤوا, ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه, وهو قوله: ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) , يعني الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم. وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم.