وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 51 ) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 ) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ( 53 )

( وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) ( وَاحِدَةٌ ) . يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي: وما أمرنا إلا مرة واحدة

وقيل: معناه: وما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة: كن فيكون لا مراجعة فيها كلمح بالبصر. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر وقال الكلبي عنه: وما أمرنا لمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ) أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة.

( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) متعظ يعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر.

( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ ) يعني فعله الأشياع من خير وشر ( فِي الزُّبُرِ ) في كتاب الحفظة، وقيل: في اللوح المحفوظ .

( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ) من الخلق وأعمالهم وآجالهم ( مُسْتَطَرٌ ) مكتوب، يقال: سطرت واستطرت وكتبت واكتتبت.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 ) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( 55 )

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ) بساتين ( وَنَهَرٍ ) أي أنهار، ووحَّده لأجل رؤوس الآي، وأراد أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقال الضحاك: يعني في ضياء وسعة ومنه النهار. وقرأ الأعرج « ونُهُر » ، بضمتين جمع نهار يعني: نهارًا لا ليل لهم.

( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) ملك قادر لا يعجزه شيء. قال [ جعفر ] الصادق: مدح الله المكان بالصدق فلا يُقْعِد، فيه إلا أهل الصدق.

 

سورة الرحمن

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 )

( الرَّحْمَنُ ) قيل: نـزلت حين قالوا: وما الرحمن؟ . وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا: إنما يعمله بشر .

( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال الكلبي: علم القرآن محمدا. وقيل: ( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) يسره للذكر.

( خَلَقَ الإِنْسَانَ ) يعني آدم عليه السلام, قاله ابن عباس وقتادة. ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) أسماء كل شيء، وقيل :علمه اللغات كلها, وكان آدم يتكلم بسبعمائة [ ألف ] لغة أفضلها العربية.

وقال الآخرون: ( الإِنْسَانَ ) اسم جنس, وأراد به جميع الناس « علمه البيان » النطق والكتابة والفهم والإفهام, حتى عرف ما يقول وما يقال له. هذا قول أبي العالية وابن زيد والحسن.

وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به.

وقال ابن كيسان: ( خَلَقَ الإِنْسَانَ ) يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم « علمه البيان » يعني بيان ما كان وما يكون لأنه كان يبين [ عن ] الأولين والآخرين وعن يوم الدين.

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 ) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 ) وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ( 11 )

( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) , قال مجاهد: كحسبان الرحى. وقال غيره :أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها, قاله ابن عباس وقتادة. وقال ابن زيد وابن كيسان: يعني بهما تحسب الأوقات والآجال لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئًا. وقال الضحاك: يجريان بقدر, والحسبان يكون مصدر حسبت حسابًا وحسبانًا, مثل الغفران والكفران, والرجحان والنقصان, وقد يكون جمع الحساب كالشبهان والركبان.

( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) , النجم ما ليس له ساق من النبات , والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء، وسجودهما سجود ظلهما كما قال : يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ( النحل- 48 ) قال مجاهد: النجم هو الكوكب وسجوده طلوعه.

( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ) , فوق الأرض, ( وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) , قال مجاهد: أراد بالميزان العدل . المعنى: أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى: ( أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) , أي لا تجاوزوا العدل. وقال الحسن وقتادة والضحاك: أراد به الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف, وأصل الوزن التقدير ( أَلا تَطْغَوْا ) يعني لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان.

( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ) , بالعدل, وقال أبو الدرداء وعطاء: معناه أقيموا لسان الميزان بالعدل. قال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب, ( وَلا تُخْسِرُوا ) , ولا تنقصوا ( الْمِيزَانَ ) , ولا تطففوا في الكيل والوزن.

( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) , للخلق الذين بثهم فيها .

( فِيهَا فَاكِهَةٌ ) , يعني: أنواع الفواكه, قال ابن كيسان: يعني ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى, ( وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ ) , الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم ينشق, واحدها كِمٌ, وكل ما ستر شيئًا فهو كم وكمة, ومنه كم القميص, ويقال للقلنسوة كُمَّةٌ, قال الضحاك: « ذات الأكمام » أي ذات الغلف. وقال الحسن: أكمامها: لفيفها. [ وقال ابن زيد: هو الطلع قبل أن ينشق ] .

وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 )

( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ) , أراد بالحب جميع الحبوب التي تحرث في الأرض قال مجاهد: هو ورق الزرع. قال ابن كيسان: ( الْعَصْفِ ) ورق كل شيء يخرج منه الحب, يبدو أولا ورقًا وهو العصف ثم يكون سوقًا, ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب .وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو التبن. وهو قول الضحاك وقتادة. وقال عطية عنه :هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس, نظيره: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ( الفيل- 5 ) .

( وَالرَّيْحَانُ ) , هو الرزق في قول الأكثرين, قال ابن عباس: كل ريحان في القرآن فهو رزق. وقال الحسن وابن زيد هو ريحانكم الذي يشم, قال الضحاك: ( الْعَصْفِ ) :هو التبن. و « الريحان » ثمرته.

وقراءة العامة: ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) , كلها مرفوعات بالرد على الفاكهة. وقرأ ابن عامر ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) بنصب الباء والنون وذا بالألف على معنى: خلق الإنسان وخلق هذه الأشياء. وقرأ حمزة والكسائي ( وَالرَّيْحَانُ ) بالجر عطفًا على العصف فذكر قوت الناس والأنعام, ثم خاطب الجن والإنس فقال:

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) , أيها الثقلان, يريد من هذه الأشياء المذكورة. وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريرًا للنعمة وتأكيدًا في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع, يعدد على الخلق آلاءه ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها, كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانًا فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملا؟ فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا التكرار شائع في كلام العرب حسن تقريرًا.

وقيل: خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ( ق- 24 ) .

وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها, ثم قال : « ما لي أراكم سكوتًا لَلْجِنّ، [ كانوا ] أحسن منكم ردًا, ما قرأت عليهم هذه الآية مرة » فبأي آلاء ربكما تكذبان « إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب, فلك الحمد » .

خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( 15 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 )

( خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) .

( وَخَلَقَ الْجَانَّ ) وهو أبو الجن. وقال الضحاك: هو إبليس, ( مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه. قال مجاهد: وهو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت, من قولهم: مرج أمر القوم, إذا اختلط. ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )