رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 )

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ ) مشرق الصيف ومشرق الشتاء . ( وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) مغرب الصيف ومغرب الشتاء. ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) العذب والمالح أرسلهما وخلاهما ( يَلْتَقِيَانِ ) .

( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ) حاجز من قدرة الله تعالى , ( لا يَبْغِيَانِ ) لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه .وقال قتادة: لا يطغيان على الناس بالغرق . وقال الحسن: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) بحر الروم وبحر الهند, وأنتم الحاجز بينهما. وعن قتادة أيضًا: بحر فارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر. قال مجاهد والضحاك: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( 24 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 )

( يَخْرُجُ مِنْهُمَا ) قرأ أهل المدينة والبصرة: ( يُخْرَجُ ) بضم الياء وفتح الراء، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الراء, ( اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) وإنما يخرج من المالح دون العذب وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل, كما قال عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ( الأنعام - 130 ) . وكانت الرسل من الإنس دون الجن. وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر. قال ابن جريج: إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤة، واللؤلؤة: ما عظم من الدر, والمرجان: صغارها. وقال مقاتل ومجاهد على الضد من هذا. وقيل: « المرجان » الخرز الأحمر. وقال عطاء الخراساني: هو اليسر . ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

( وَلَهُ الْجَوَارِ ) السفن الكبار , ( الْمُنْشَآتُ ) قرأ حمزة وأبو بكر: « المنشِئات » بكسر الشين , أي: المنشئات للسير [ يعني اللاتي ابتدأن وأنشأن السير ] . وقرأ الآخرون بفتح الشين أي المرفوعات , وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض . وقيل: هي ما رفع قلعه من السفن وأما ما لم يرفع قلعه فليس من المنشئات. وقيل المخلوقات المسخرات, ( فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل, شبه السفن في البحر, بالجبال في البر ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ) أي على الأرض من حيوان فإنه هالك ( فَانٍ ) .

( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ ) , ذو العظمة والكبرياء ( وَالإِكْرَامِ ) , أي مكرم أنبيائه وأوليائه بلطفه مع جلاله وعظمته . ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 )

( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) , من ملك وإنس وجن. وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماء والأرض. قال ابن عباس: فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرحمة [ والرزق والتوبة والمغفرة ] وقال مقاتل: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأله الملائكة أيضًا لهم الرزق والمغفرة .

( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) , قال مقاتل: نـزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا .

قال المفسرون: من شأنه أن يحيي ويميت, ويرزق, ويعز قومًا, ويذل قومًا, ويشفي مريضًا, ويفك عانيًا ويفرج مكروبًا, ويجيب داعيًا, ويعطي سائلا ويغفر ذنبًا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي - إملاء- أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز, أخبرنا يحيى بن الربيع المكي, أخبرنا سفيان بن عيينة, أخبرنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن مما خلق الله عز وجل لوحًا من درة بيضاء, دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة, يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله: « كل يوم هو في شأن » .

قال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة, فالشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا: الإخبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة, والإعطاء والمنع, وشأن يوم القيامة: الجزاء والحساب, والثواب والعقاب .

وقيل: شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر, عسكرًا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات, وعسكرًا من الأرحام إلى الدنيا, وعسكرًا من الدنيا إلى القبور, ثم يرتحلون جميعًا إلى الله عز وجل.

قال الحسين بن الفضل: هو سَوْقُ المقادير إلى المواقيت . وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية: كل يوم له إلى العبيد بر جديد .

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ( 33 )

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ ) , قرأ حمزة والكسائي: سيفرغ بالياء لقوله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ , وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ وَلَهُ الْجَوَارِ فأتبع الخبر .

وقرأ الآخرون بالنون, وليس المراد منه الفراغ عن شغل, لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولكنه وعيد من الله تعالى [ للخلق ] بالمحاسبة, كقول القائل: لأتفرغن لك, وما به شغل, وهذا قول ابن عباس والضحاك وإنما حسن هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن.

وقال آخرون: معناه: سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم, كقول القائل للذي لا شغل له: قد فرغتَ لي. وقال بعضهم: إن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور، ثم قال: سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم، فنحاسبكم ونجازيكم وننجز لكم ما وعدناكم، فيتمَّ ذلك ويفرغ منه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل.

( أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) , أي الجن والإنس, سميا ثقلين لأنهما ثقل على الأرض أحياء وأمواتًا، قال الله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا , ( الزلزلة- 2 ) وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل, قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » فجعلهما ثقلين إعظامًا لقدرهما.

وقال جعفر بن محمد الصادق: سمي الجن والإنس ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ) , أي تجوزوا وتخرجوا, ( مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي من جوانبهما وأطرافهما, ( فَانْفُذُوا ) معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض: فاهربوا واخرجوا منها. [ والمعنى ] حيثما كنتم أدرككم الموت, كما قال جل ذكره: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ , ( النساء- 78 ) وقيل: يقال لهم هذا يوم القيامة إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا, ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) أي: بملك, وقيل بحجة, والسلطان: القوة التي يتسلط بها على الأمر, فالملك والقدرة والحجة كلها سلطان, يريد حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني. وروي عن ابن عباس قال: معناه: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله عز وجل . وقيل قوله: « إلا بسلطان » أي إلا إلى سلطان كقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ( يوسف- 100 ) أي إليّ .

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( 35 )

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، وفي الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا الآية فذلك قوله عز وجل:

( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) , قرأ ابن كثير: بكسر الشين والآخرون بضمها , وهما لغتان, مثل صوار من البقر وصوار. وهو اللهيب الذي لا دخان فيه هذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار, ( وَنُحَاسٌ ) , قرأ ابن كثير وأبو عمرو « ونحاس » بجر السين عطفًا على النار, وقرأ الباقون برفعها عطفًا على الشواظ.

قال سعيد بن جبير والكلبي: « النحاس » : الدخان وهو رواية عطاء عن ابن عباس.

ومعنى الرفع يرسل عليكما شواظ, ويرسل نحاس, أي يرسل هذا مرة وهذا مرة, ويجوز أن يرسلا معًا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر, ومن كسر بالعطف على النار يكون ضعيفًا؛ لأنه لا يكون شواظ من نحاس, فيجوز أن يكون تقديره: شواظ من نار وشيء من نحاس, على أنه حكي أن الشواظ لا يكون من النار والدخان جميعًا.

قال مجاهد وقتادة: النحاس هو الصُّفْر المذاب يصب على رؤوسهم, وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وقال عبد الله بن مسعود: هو المهل.

( فَلا تَنْتَصِرَانِ ) , أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 ) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 ) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ( 39 )

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ( فَإِذَا انْشَقَّتِ ) , [ انفرجت ] ( السَّمَاءُ ) , فصارت أبوابًا لنـزول الملائكة ( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) , أي كلون الفرس الورد, وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة, قال قتادة: إنها اليوم خضراء, ويكون لها يومئذ لون آخر يضرب إلى الحمرة.

وقيل: إنها تتلون ألوانًا يومئذ كلون الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه.

( كَالدِّهَانِ ) , جمع دهن. شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل, وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه, وهو قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع.

وقال عطاء بن أبي رباح: ( كَالدِّهَانِ ) كعصير الزيت يتلون في الساعة ألوانًا.

وقال مقاتل: كدهن الورد الصافي. وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم.

وقال الكلبي: كالدهان أي كالأديم الأحمر وجمعه أدهنة ودهن ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) . ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) , قال الحسن وقتادة: لا يسئلون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم، لأن الله عز وجل علمها منهم, وكتبت الملائكة عليهم, وهي رواية العوفي عن ابن عباس .

وعنه أيضًا: لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفونهم بسيماهم. دليله: ما بعده, وهذا قول مجاهد .

وعن ابن عباس في الجمع بين هذه الآية وبين قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , ( الحجر - 92 ) , قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم, ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟

وعن عكرمة أنه قال: إنها مواطن, يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها.

وعن ابن عباس أيضًا: لا يسألون سؤال شفقة ورحمة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.

وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 )

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )